سميح شقير ابن الجولان المحتل.. أخيرا في سوريا!

الفنان السوري سميح شقير (منصات التواصل)

عندما وجه بشار الأسد قنابله إلى شعبه، ودمر القرى والمدن وشرد الملايين، جاء الرد من الفنان سميح شقير بأغنية “يا حيف”، ذلك مصطلح عربي فصيح يعبر عن الظلم والجور، ولكنه في اللهجة الشامية يأخذ معنى الاستغراب العميق والاستياء، إذ قال فيها: “يا حيف زخ رصاص على الناس العزّل يا حيف، وأطفال بعمر الورد تعتقلن كيف، وأنت ابن بلادي تقتل بولادي. وظهرك للعادي وعليّ هاجم بالسيف، يا حيف”.

تلك الأغنية التي اعتُبرت عصب الثورة السورية منذ انطلاقتها في 2011 وحتى التحرير، عبرت بصدق عن نبض الشارع السوري بكافة أطيافه، من المثقفين إلى البسطاء، فحررت حناجرهم المحبوسة ومشاعرهم المقموعة طوال سنوات من الظلم، لتتجاوز كلماتها حدود البلاد ولتصبح أيقونة الأحرار.

عاد أخيراً سميح شقير ابن الجولان المحتل إلى سوريا بعد 15 عاماً عاشها في الاغتراب قسراً، عاد كما كان، لم يثنه الخوف كما فعل كثير من فناني سوريا  على الثبات على مواقفه المتضامنة مع شعبه، ليصدح بذات الأغنية، مذكراً الشعب السوري بماهية أغاني المقاومة التي تنسجم وتتكامل مع أهداف الثورة. فمنذ اللحظة التي اندلعت فيها الاحتجاجات المطالبة بالتغيير والإصلاح من درعا، لم يكن صوت سميح شقير محفزاً لنيل الحقوق فحسب، وإنما استطاع أن ينقل الحكاية بعفوية للأجيال الجديدة، ويربط بين الجيل الحالي والأجيال السابقة التي عاشت ويلات وظلم عائلة الأسد.

كلمات عابرة للحدود

ثمة أصوات وكلمات تحمل قدرة فريدة على تجاوز الحدود الجغرافية والانتماءات الضيقة، لتصبح ملكًا للجميع. أصوات تحمل في طياتها شيئًا من الهموم المشتركة، وتلك سمة أغاني سميح شقير، فتبدو لمن يسمعها وكأنها كلماته هو، وحنجرته هو، تستثير فيه روح المقاومة والتحدي. وهذا تمامًا ما قال بنفسه: “لو رحل صوتي ما بترحل حناجركم”.

عكست كلمات شقير وأغانيه الألم والخذلان الذي شعر به الشعب السوري في ظل القمع، لتتحول بسرعة إلى رمز للثورة. انتشرت “يا حيف” بين طبقات المجتمع السوري سراً بسبب منع بث هذا النوع من الأغاني، إذ كان يتم نسخها وتداولها بحرص شديد خوفاً من الاعتقال والتنكيل، وأصبحت صوت الشعب في معركته ضد الاستبداد، لترافق الحراك الثوري منذ لحظاته الأولى، وتتحول إلى أداة وسلاح لا يقل أهمية عن الحراك المقاوم.

بين بيوت إدلب ودرعا وريف دمشق، كانت أغنية “اللي بيقتل شعبه… خاين” تتنقل بين الحناجر كظل غير مرئي. كلماتها حادة، ممزوجة بالغضب، ترفض القمع وتكشف الوجه الآخر للسلطة. كانت الأغنية تردد في اللحظات التي يتلاشى فيها الصوت تحت وقع الرصاص، لتظل تذكر بأن الخيانة لا تُغتفر. وفي كل ترديد، كان السوريون يكتبون تاريخهم بصوت لا يُسمع إلا لمن يبحث عن الحقيقة خلف السطور.

فلسطين حاضرة

وكشخص يعتبر نفسه مقاوم بالكلمة والفن، فلا بد أن تكون فلسطين حاضرة وبقوة في أغاني سميح شقير، فلطالما شكلت أغنية “إن عشت فعش حرًّا أو مُتْ كالأشجار وقوفًا” للشاعر الفلسطيني محمود دورويش، محفزاً للانتفاضة في مدن الضفة الغربية وغزة ،إذ أضافت بعدًا خاصًا للعمل المقاوم.

ولعل ارتباط أغاني سميح شقير بفلسطين، جعل الكثير من أبنائها يظنون أنه فلسطيني، يغني عنهم ولهم، وهو لم ير الأمر غريباً، فهو يشعر بأنه فلسطيني بقدر ما يشعر بأنّه سوري. لا يعترف بالحدود، بل يرى هذه البلدان في وجدانه كيانًا واحدًا. ولذلك، يعتبر أن الهم الفلسطيني جزء جوهري من حياته. وذلك ما دفعه لتأسيس “فرقة الأرض الفلسطينية” في مخيم اليرموك بدمشق، ولحّن لهذه الفرقة العديد من الأغاني.

سميح، الذي نشأ في قرية مهجرة من الجولان، ثم انتقل إلى السويداء، لم يتوقف عن الغناء حتى بعد أن أُجبر على مغادرة وطنه بسبب الضغوط من النظام السوري، ليعيش في باريس منذ اندلاع الثورة. ورغم البعد عن الوطن، لم تنكسر عزيمته وظل يقدم ألبومات غنائية وألحانًا للمسلسلات والمسرحيات، بما فيها مسرحية “خارج السرب” لمحمد الماغوط.

في حواراته الصحفية في الاغتراب، تحدث سميح عن مدى تأثير الحرب والموت في أعماله، إذ قال إنه لا يمكن للأغاني أن تكون شاهدًا على الواقع دون أن تتناول تفاصيل الحروب والمجازر والحرية.

أداة لتوحيد الصفوف

غنى سميح شقير لقضايا عربية عدة، ربط فيها فنه بالأحداث السياسية والاجتماعية في المنطقة. ففي أغنيته “الحصار”، التي تناولت حصار بيروت، عكس معاناة المدينة في لحظات مفصلية من تاريخها، بينما عبرت أغنيته عن المظاهرات التي سبقت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، كما قدم أغنيته “بعدك عايش ببالنا” التي تناولت الوضع السوداني، مظهراً للتضامن العربي مع السودان في مرحلة صعبة. ومن خلال هذه الأغاني، قدم شقير فناً متواصلاً مع الأحداث الجارية، مما جعل أغانيه جزءاً من الموروث الموسيقي المقاوم.

كان لسميح شقير دور كبير في استمرارية أغاني المقاومة منذ انطلاقته في الثمانينيات، تلك التي كان بريقها يخفت ويعلو وفقا للأحداث السياسية. ونعلم جميعاً تأثير الثنائي الشيخ إمام والشاعر أحمد فؤاد نجم اللذين شكلا ظاهرة فنية مميزة في الساحة العربية، حيث تعرض الفنان والشاعر للسجن عدة مرات بسبب الأغاني التي لاقت انتشاراً واسعاً بين المصريين والعرب وما تزال تتردد وتنتقل من جيل لآخر، وهنا عبر شقيرعن ذلك المعنى بقوله: “أغاني المقاومة لا تشيخ”.

نذكر أيضاً أغاني سيد درويش وبعض أغاني فيروز، بالإضافة إلى الفنان مارسيل خليفة والفنانة جوليا بطرس وفرقة العاشقين، هؤلاء الذين تميزوا بصدق الكلمة، وارتبطت أسماؤهم بالمقاومة ومفاهيم الثورة والتضحية.

الحقيقة أن ظاهرة سميح شقير وغيره من فناني المقاومة تؤكد أن أدوات المقاومة لا تقتصر على السلاح فقط، بل تشمل الكلمة والشعر والأغنية والرسم، وهي وسائط لا تقل قوة عن الثورات المسلحة  في مواجهة الظلم والاحتلال. فالصهاينة لم يغتالوا غسان كنفاني وناجي العلي لأنهما من القادة العسكريين، بل لأن ما قدماه من فن كان أشد تأثيراً من الرصاص.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان