الدراما ورمضان.. هكذا كانت البداية!

يسبق اتحاد الإذاعة والتلفزيون الهيئة الوطنية للإعلام التي نشأت في 2018 (منصات التواصل)

في كل عام ومع قدوم شهر رمضان، تقتحم بقوة تنويهات وإعلانات ومسلسلات الدراما التلفزيونية واقع وحياة المواطنين العرب، حصار ممتد يزيد طوله على 3 آلاف ساعة درامية (وأضعافها من مقاطع الإعادة والردود) هذا ففضلا عن فيضان آخر من الإعلانات والبرامج الترفيهية والفنية، وكل ذلك من أجل العرض في شهر واحد.

الهروب من متابعة طوفان الدراما (الرمضاني) وتوابعه وأدرانه ليس بالأمر اليسير، فإذا تجاهلت الدراما التلفزيونية في الفضائيات، طاردتك أصداؤها وأخبارها في الصحف ومواقع الإنترنت، وإذا تغاضيت عن مشاهدة حلقاتها في منصات المشاهدة، تسللت إليك مقاطعها من باقي وسائل التواصل الاجتماعي، وإذا أهملت رسائل الهاتف عن مسابقات الدراما وتركت المنزل وتنفست الصعداء، باغتتك الدراما من إذاعة السيارة، وإذا أغلقتها، نظر إليك نجوم الدراما من إعلانات الشوارع ولافتات الجسور وهم يسخرون.

ومع تلك المطاردة السنوية في ذلك التوقيت الذي يجتهد فيه معظم المسلمين في مراجعة النفس وطلب المغفرة والرحمة، ومحاولة الاجتهاد في العبادة، وقراءة القرآن وتجديد الإيمان، دائمًا ما يلحّ هذا السؤال على الكثيرين؛ مَن العاقل الذي ترك كل شهور العام وأقام هذا السباق التلفزيوني التجاري الإعلاني المحموم في {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان}؟!

أو بالأحرى: من الذي حط رحال السيرك في رحاب المسجد؟!

التكون والتطور

في منتصف عام 1960م أُعلن مولد التلفزيون (العربي) من القاهرة بقناة واحدة وبدأ الإرسال بتلاوة آيات من القرآن الكريم بصوت الشيخ محمد صديق المنشاوي.

ومنذ ذلك الوقت بدأ اهتمام الجماهير المصرية بمواد التلفزيون الثقافية والإخبارية والترفيهية وخاصة المسلسلات التلفزيونية، فقد لاقت استحسان الجمهور بجانب المسلسلات الدرامية الإذاعية التي سبقت التلفزيون بعقود.

إلا أن مسلسل “هارب من الأيام” الذي عرض عام 1962م أحدث ضجة كبيرة، ووجد اهتماما بالغًا من الناس، وصل إلى خلو الشوارع من المارة، وهو ما أكد لضباط يوليو أن رهانهم على أدوات القوة الناعمة كان في محله.

ومع تعدد القنوات التلفزيونية وانتشار البث التلفزيوني في العديد من الدول العربية، زادت الحاجة لدى التلفزيون المصري إلى إنتاج المزيد من المسلسلات لشغل ساعات البث في القنوات التلفزيونية المصرية والعربية التي ظلت فترة طويلة ممتدة إلى الآن تعتمد على مواد الفن المصري من المسلسلات والأفلام والمسرحيات والحفلات.

وحتى ذلك الوقت كانت مساحة الدراما التلفزيونية في شهر رمضان محدودة، وتزيد قليلًا في عدد المسلسلات عن باقي شهور السنة، ولم تكن الإعلانات أيضًا بتلك الكثافة الحالية وذلك الطغيان.

واستمرت الأوضاع هادئة حتى بدأ انتشار البث الفضائي العربي بعد أعوام قليلة من إنشاء قطاع الإنتاج في التلفزيون المصري عام 1985م.

وقد شكل الأخير فرقًا كبيرًا في الأداء وطفرة في حجم ونوعية الإنتاج، ويمكن إدراك ذلك بسهولة عند رؤية خريطة المسلسلات الاجتماعية والتاريخية والدينية وحتى الكوميدية التي قدمها قطاع الإنتاج بالتلفزيون المصري حيث تعكس إلى أي حد اهتم النظام في مصر آنذاك بإدارة وتنظيم هذا القطاع بما يمتلك من قوة وتأثير في الجماهير سواء في مصر أو في الوطن العربي.

وفي ذلك التوقيت وردًّا على اهتمام الجماهير وانتشار الفضائيات وزيادة كعكة الإعلانات بدأ صناع الدراما في تمييز وتأطير المسلسل الدرامي “الرمضاني” باعتباره الأكثر مشاهدة، والأعلى في تحقيق الربح، حيث تحرص الأسر المصرية والعربية على التجمع والبقاء في المنازل بعد الإفطار.

ويمكن للدلالة على ذلك تذكر كيف أن دورًا ناجحًا فقط في مسلسل رمضاني كان كفيلًا بجعل الوجوه الجديدة نجومًا يشار إليهم بالبنان قبل أن ينتهي الشهر الكريم.

ولا يمكن إغفال كيف نجحت الدراما المعروضة في شهر رمضان في صنع شخصيات حية ما زالت تعيش في وجدان المشاهد المصري والعربي.

سباق محموم

ومع اعتراض البعض على مبدأ “حط رحال السيرك في رحاب المسجد”، يكمن في خلفية المشهد مضمونًا قاتمًا وتفاصيل كثيرة تؤيد هذا الاعتراض، فلا يوجد عاقل يدعم تحويل شهر تعزيز العلاقة بين الإنسان وربه إلى شهر يُدفع فيه المشاهد العربي فريسةً لمشاهدة المئات من ساعات الدراما السطحية المحشورة قسرًا فواصل بين الإعلانات التجارية وليس العكس.

دراما لا يكتبها مبدعون ولكن تخضع لدوائر الأقارب والأصدقاء والمحسوبية وأصحاب النفوذ، لذا فقد أضحى معظمها لا يناسب المواطن العربي في حياته واهتماماته وقضاياه وآلامه وآماله، بنفس القدر الذي لا يناسب فيه الشهر الكريم، والمُحزن أن جزءا كبيرا من تلك الدراما يعمل بقصد أو من دون قصد على تقويض الذوق العام، وبث وترسيخ مفاهيم وأفكار غريبة على المجتمع المصري والعربي بعاداته وأصوله ومعتقداته.

ومن الأسباب التي أدت إلى ما سبق خوض صناع الدراما صراعا سنويا محموما دائما ما يخسر فيه المشاهد، حيث يعلن الجميع التعبئة العامة قبل شهر رمضان بأسابيع معدودة سعيًا للمشاركة في تجهيز وتصوير المسلسلات التلفزيونية الدرامية تمهيدًا لعرضها في سباق الموسم الرمضاني.

ولا يخفى على أحد أن التحضير السريع لبعض الأعمال الدرامية قبل رمضان بفترة بسيطة يدفع صناع العمل إلى الاستسهال وعدم الإتقان، وهو ما يؤثر حتمًا في الجودة، خاصة أن تصوير أجزاء كبيرة من تلك المسلسلات كثيرًا ما يتزامن مع العرض على الشاشات أثناء الشهر الكريم.

ولا يصبّ الطوفان الدرامي المعروض في شهر واحد، في مصلحة الدراما، حيث تتعثر الأعمال الجيدة ويصعب فرزها في ظل تلك الفوضى، وهو ما يفقدها فرصة الوصول إلى الناس والبقاء في الذاكرة.

ما الحل؟

دائمًا ما تأتي الفوضى مع غياب الإدارة واختفاء الجهات المنظمة، الغريب في أمر فوضى الدراما الرمضانية هو أن الجهة المنتجة الكبرى في المنطقة العربية، هي في نفس الوقت تعد الجهة المنظمة والرقيبة على الأمر، وهو ما يجعل من الإصلاح أمرًا يسيرًا عبر حضور الرؤية ورسم السياسات ووضع المعايير والضوابط مع الاهتمام بالجودة، ولكن كل ذلك مرتهن بوجود الإرادة السياسية والاستعانة بالكفاءات.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان