السياسة الأمريكية في معمل الوراثة!

ترامب انتقد زيلينسكي بشدة ووصفه بأنه ديكتاتور
ترامب وزيلينسكي (رويترز)

اتخذت السياسة الأمريكية مواقف حادة وسريعة تجاه الصراعات الأساسية الناشبة حول العالم في بداية حكم الرئيس “دونالد ترامب” حيث يبدو الانحياز لطرف على حساب آخر غير محكوم بحقائق الصراع وخلفياته وتفاصيله أو بمعيار الحق أو توقيف البادئ بالوثوب. ويبدو أن رجل المال والأعمال مسكون بنظرية ملخصها ضرورة استبعاد العناصر الضعيفة من المعادلة ليبقى العنصر الأقوى سائدًا بينما يُفرض التنحي على الضعيف لأنه لم يعد مرغوبًا ولا أوراق لديه ليملي شروطه أو حتى لمواجهة الاستبعاد.

يُعتبر الاصطفاء هو أحد التقنيات الأساسية في علم تربية النبات، ويقوم على استخدام الإنسان للنباتات التي تمتلك سمات نرغب في استمرارها، بينما يستبعد  العناصر التي لا تمتلك تلك الصفات، ويحدث شئ مماثل في علم تربية الحيوان إذ يخضع تكوين الأسر بواسطة التحكم البشري لانتقاء العناصر القوية ذات الإنتاج الغزير واستبعاد ما هو ضعيف أو مريض.

عالم الإنسان ليس ببعيدٍ عن هذا إذ تتكفل العلوم الحديثة بدراسة أفضل السبل لأن يكون النسلُ البشري صحيحًا معافى لا مكان فيه للهزال، خاليًا من الأمراض، يتسم بالمناعة ومقاومة هجمات الكائنات اللامرئية كالفيروسات وغيرها.

يُعرف علم الهندسة الوراثية بأنه تلاعب إنساني مقصود وتدخل مباشر في المادة الوراثية الموجودة في خلايا الكائن الحي (الإنسان، الحيوان، النبات) بطريقة لا تحدث في الظروف الطبيعية ويتضمن ذلك فصلًا أو وصلًا للوحدات الوراثية أو نقلها من كائن لآخر أو عزلها داخل الكائن نفسه بهدف استكمال نقص أو تدعيم ميزة في عنصر محدد أو تجنب خصائص معينة لا يُراد لها أن تطل برأسها في التكوين المقصود.

بعيدًا عن السياسة

تبدو سياسة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” أقرب إلى علم الهندسة الوراثية منها إلى علم السياسة وشؤون الحكم، حيث إن تتبع قراراته الكثيرة وتصريحاته الغزيرة خلال الشهر الأول لتوليه الحكم رئيسًا للولايات المتحدة في العشرين من يناير/كانون الثاني الماضي سيكشف عن تناغم مع علم الهندسة الوراثية وبُعدٍ بالقدر ذاته عن علم السياسة بشقيها النظري الذي يتكفل به العلماء والباحثون والعملي الذي يتولاه الساسة والتنفيذيون.

ويبدو أن السياسة الجديدة في عهد ترامب ستسير على النهج ذاته من تدعيم سريع لعناصر قوية منتقاه وفق المصالح الأمريكية، واستبعاد عناصر أخرى بمعزل عن العوامل التقليدية التي ينشغل بها الساسة والمراقبون من خلفيات التاريخ وحقائق الجغرافيا.

قبل العودة

خلال حملته الانتخابية كمرشح عن الحزب الجمهوري في السباق إلى البيت الأبيض أطلق ترامب، ملياردير العقارات المثير للجدل، تحديًا بأنه سيوقف الحرب بين روسيا وأوكرانيا خلال أربع وعشرين ساعة، وأن هذه الحرب لم تكن لتندلع أصلًا لو كان هو رئيسًا وقتها.

خلال حملته ذاتها أكد ترامب أن حكومة بلاده لا تقدم دعمًا كافيًا لإسرائيل في حربها على قطاع غزة ولا تظهر القوة اللازمة أمام حركة المقاومة الإسلامية (حماس) للإفراج عن الرهائن الإسرائيليين الذين احتجزتهم المقاومة خلال اجتياز السياج الحدودي بين غزة وإسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 التي عرفت بعملية “طوفان الأقصى”، كما جدد ترامب تحدياته أيضا بأنه لو كان رئيسًا لما تجرأ الفلسطينيون أصلًا على مهاجمة إسرائيل حليفة بلاده في الشرق الأوسط.

كان هناك اعتقاد بأن كثيرًا من تصريحات ترامب هي دعاية من ضرورات حملته الانتخابية لكسب الأصوات والأنصار، وأنه سيعود للمؤسسات التقليدية في بلاده لتتبع مسارات بعضها ثابت منذ عقود في السياسة الأمريكية تجاه العالم.

بعد التنصيب

كان العالم يشاهد المرشح المعروف بطريقته واتجاهاته الشعبوية وهو يتحدث لجماهيره دون ضابط من قرارات دولية في الصراعات المسلحة أو حتى استنادًا للقانون أو لتراث سياسات بلاده نفسها، التي كانت تفضل في أحيان كثيرة إدارة الصراعات وليس العمل على حلها.

بعد تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة فاجأ ترامب الجميع بأن ما أعلنه خلال حملته لم يكن للاستهلاك الانتخابي، وأنه كان يرتب لإنهاء الصراعات بالفعل وليس مجرد إدارتها كما حرص أسلافه، وأن استمرار الحروب وإن كان يغذي سوق الأسلحة والذخيرة الذي تحظى بلاده بنصيب كبير منها، إلا أن حل الصراعات سيأتي بمكاسب أكبر وأكثر استدامة من استثمار ومشروعات ستصب في النهاية لمصلحة الأمة الأمريكية.

تطبيق الاصطفاء

دون انتظار لخطوات الدبلوماسية التقليدية البطيئة كانت كلمات ومواقف ترامب أسرع في الصراعين المسلحين المسيطرين على الساحة الدولية منذ سنوات ثلاث وهما حربا أوكرانيا وغزة.

في صراع روسيا وأوكرانيا طرفان أولهما خصم تقليدي ومنافس منذ عقود، وثانيهما حليف يقف على أبواب حلف الناتو ينتظر السماح له بالدخول ليصبح الحلف على مرمى حجر من الأراضي الروسية وعلى عكس المتوقع وخطى سلفه “جون بايدن” من دعم أمريكي للاقتصاد الأوكراني بالمال وللجيش بالسلاح والذخيرة ومن محاولة ترجيح الكفة العسكرية لحكومة “كييف”. فاجأ ترامب أوكرانيا وأوروبا بموقف منحاز للطرف الأقوى وهو روسيا يتفهم فيه مطالبها الأمنية ويقر بصعوبة استعادة ما انتزعته من أراض أوكرانية منذ 2014 وينهي حلم أوكرانيا بالانضمام للناتو، بل ومطالبتها بمقابل الدعم الذي قدمته بلاده لها خلال سنوات الحرب عن طريق توقيع اتفاقية لاستغلال المعادن النادرة الموجودة بكثافة في أراضيها.

استبعد ترامب الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي” من المحادثات الأمريكية الروسية التي استضافتها السعودية، وقال إن حضوره غير مهم وإنه لم يفعل شيئا بحضوره الاجتماعات منذ ثلاث سنوات. استبعد ترامب الطرف الضعيف الذي لا يملك أوراقًا ويقوم بترتيب صفقات اقتصادية كبرى مع روسيا الطرف الأقوى من أجل سرعة إنهاء الصراع والحصول على الغنائم كشرط لوقف الحرب.

الاستبعاد

في الصراع العربي الإسرائيلي يبدو انحياز ترامب لإسرائيل التي يراها الطرف الأقوى متسقًا مع السياسة الأمريكية منذ نشأة الدولة العبرية عام 1948 على أرض فلسطين التاريخية، ويبدو الفلسطينيون في موقف ضعيف دون دعم عربي أو إسلامي كاف، وتماشيا مع نهجه الجديد اعتبر ترامب أن غزة مجرد أرض تعرضت لدمار هائل لكنها صالحة للاستثمار واستغلال شواطئها لتصبح “ريفيرا” الشرق الأوسط، بعد تهجير سكانها لدول أخرى، وذلك دون اعتبار لرغبات الفلسطينيين المعلنة في العيش بكرامة وحرية على أرضهم وليس مجرد لاجئين في أمكنة أخرى.

تجاهل ترامب الحق الفلسطيني واستبعد أهل غزة باعتبارهم الطرف الأضعف الذي لا يملك أوراقًا ولم ير في القضية الفلسطينية غير جانب الاستثمار وشراء الأرض التي تئن مخيماتها لتصبح منتجعات للسياح من أنحاء العالم.

العراق في الطريق

قبل أيام قال “مايكل فلين” مستشار الأمن القومي السابق في فترة ترامب الأولى إن بلاده يجب أن تحصل على عوائد النفط العراقي لرد قيمة المساعدات الأمريكية تمامًا كما قرر ترامب في المسألة الأوكرانية.

وإذا كان “فلين” يعتبر مقربا من ترامب الذي عرض عليه عشرة مناصب في إدارته الحالية، كما صرح، فإن العراق قد يكون في أجندة مشروعات ترامب المقبلة.

الهندسة والسلام

إذا تتبعنا سياسات وتوجهات الرئيس الأمريكي وإدارته في الشهر الأول فسنكتشف بسهولة أن أمام العالم سنوات أربع من تغليب آليات الهندسة الوراثية على قضايا العلاقات الدولية التي تستلزم فهمًا واستيعابًا لضرورات ومتطلبات حقوق الشعوب وواقعها المتداخل الذي لا تجيده قواعد الاصطفاء والاستبعاد، وهذا معناه سنوات من بقاء السياسة الأمريكية في معمل الوراثة على الأقل طوال فترة ترامب الثانية مع تساؤل ملح عما إذا كانت الهندسة الوراثية تصلح أساسًا لجلب السلام وحل الصراعات المعقدة ورد الحقوق.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان