التراث الشعبي الفلسطيني في رمضان

تتمايز الشعوب عادة عن بعضها البعض بتراثها الشعبي وثقافتها وهويتها، منها ما هو غارق في الِقدم، ضارب في عمق التاريخ، ومنها ما هو حديث نتج عن اختلاط بعض الثقافات الوافدة ومن ثم استقر في مجتمع ما، تنتقل تلك العادات والتقاليد من جيل إلى جيل ببصمة وهوية ثابتتين لا تغيرهما الغِيَر، أو تعبث بها الحقب المتوالية.
ومن تلك التقاليد المتجذرة في القدم، ذلك الكم الضخم من التراث الفلسطيني الأصيل بكل ما يحويه من مظاهر بدءا من الملابس التي تشتهر بها المرأة الفلسطينية بزخرفتها الشهيرة، والنقوش المميزة على البيوت رغم حداثتها، حتى الأناشيد والأهازيج التاريخية، غير العادات المعروفة خاصة تلك التي تسبق المناسبات الدينية العامة بدءا من شهر رمضان المبارك وليالي القدس والأقصى وصلاة التراويح والتهجد، مرورا بقداس كنيسة القيامة واحتفالاتها في القدس القديمة، وانتهاء برمزية مساجد فلسطين التاريخية كافة والذي يعبّر كل مسجد فيها عن ذكريات نصر وشهادة وعزة وثبات، لتكون فلسطين أكبر رمز ديني تاريخي عالمي.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsليلة القبض على الرئيس!
عن أزمة الدراما وغياب الحرية
الإعلام في رمضان.. تنافس على الصائمين وحرب عليهم؟!
فكل شبر فيها يحمل تراث مئات الأجيال التي عاشت على تلك الأرض واحتفظت بعبقها وحافظت عليه، من القدس لحيفا لغزة لنابلس للخليل (مدينة نبي الله إبراهيم)، التي لا يجوع فيها إنسان أبدا، حيث تكية سيدنا إبراهيم -عليه السلام- التي تقع بالقرب من الحرم الإبراهيمي، ويقدم فيها الطعام مجانا طوال العام بما في ذلك إفطار شهر رمضان المبارك لأهل المدينة والوافدين إليها، ليكون الشعب الفلسطيني من أكثر شعوب المسلمين تميزا في استقبال الشهر الكريم وتمسكا بعاداته.
الاستعداد لرمضان
في فلسطين أرض الأديان والحضارات يبدأ الاحتفال بشهر رمضان المبارك بداية من شهر شعبان، وبالرغم من الصراعات التاريخية التي شهدتها البلاد وما زالت حتى اليوم، لم تمنعها من أداء احتفالاتها وطقوسها الدينية حتى في قلب المعارك، ويعتبر الفلسطينيون رمضان فرصة لإظهار تمسكهم بالأرض وإصرارهم على الموت فيها إن لم يستطيعوا العيش فوقها.
وتعد (الفوانيس) من أهم تلك الطقوس التي تزين داخل البيوت الفلسطينية، كما تزين الشوارع التي تجتمع فيها الأسر والجيران لعمل الولائم وتبادل الحلويات، ليكون رمضان في فلسطين هو شهر التجمعات والعبادات والعادات التي لم تتبدل بمرور السنوات، مدنها وأحيائها صاخبة تضج بالحياة حتى ما بعد السحور ثم التوجه للمساجد المكتملة العدد في معظم الصلوات.
الأكلات الرمضانية المفضلة
تعدّ (المقلوبة) من أشهر الأطباق الفلسطينية على الإطلاق، وقد اشتهرت بها ليالي الأقصى، حيث تحمل المرابطات المقلوبة لإفطار الصائمين بالحرم القدسي، ثم السحور بعد صلاة التهجد، وتتنافس النسوة في حمل قدور المقلوبة العامرة بالأرز والخضروات واللحوم، أيضا هناك طبق رمضاني آخر تشتهر به فلسطين وهو (المسخن)، وهو عبارة عن دجاج مشوي بطريقة (فلسطينية) يقدم مع الخبز.
أما بالنسبة للحلويات، فتأتي القطايف في المرتبة الأولى ولها مذاق خاص في رمضان وهي عبارة عن فطائر ملفوفة بالحلو والمكسرات ثم تغمر بالشراب السكري، فهي لا تحمل رائحة الحلوى، بقدر ما تحمل رائحة التاريخ وعبق الماضي المختلط بالحاضر المثابر.
رمضان رمز صمود
بالرغم من التحديات العظيمة، والحروب الهائلة التي لها تعرض لها هذا الشعب العظيم، إلا أن صموده أمام تلك التحديات والحروب أسهم بشكل كبير في الحفاظ على الهوية الثقافية التاريخية لشعب الجبارين كما أطلق عليه مؤخرا.
وقد ارتبط شهر الصيام بالتاريخ النضالي لهم، فكانت معركة حطين التي وقعت أحداثها في عام 583هـ، ومعركة عين جالوت التي وقعت في الخامس والعشرين من رمضان عام 658هـ، هذا قديما.
وأما حديثا فقد ارتبط شهر رمضان بالانتفاضات ضد الاحتلال، وكذلك بالمجازر التي لن يغفرها التاريخ، ومنها على سبيل المثال مجزرة اللد التي وقعت أحداثها في رمضان 1948 بعد النكبة مباشرة، وقد تم تنفيذها تحت قيادة موشيه ديان، وتم قتل عدد 176 داخل مسجد لجأ الناس إليه، وكانت الحرب الأخيرة التي حقق فيها العرب نصرا عظيما على المحتل في العاشر من رمضان عام 1973.
ومن أبرز المجازر التي وقعت في رمضان كذلك، مجزرة الحرم الإبراهيمي في الخامس عشر من رمضان عام 1994، في الركعة الثانية من صلاة الفجر، وفي الثاني من رمضان عام 2004 كان انسحاب قوات الاحتلال من غزة بعد معركة (أيام الغضب) بعد الفشل في تحقيق أي هدف، وفي 2014 الحادي عشر من رمضان كانت حرب العصف المأكول التي استمرت 50 يومًا على قطاع غزة، وكان نتاجها المر 17 ألفًا و420 شهيدا.
وهناك المئات من العمليات في دائرة الصراع الفلسطيني مع المحتل لتحرير أرضه التي دارت أحداثها في شهر رمضان المبارك على مدى السنوات دون مراعاة لحرمة الأيام المقدسة عند المسلمين أصحاب الأرض والتاريخ.
وارتبط شهر رمضان كذلك بالعمليات النوعية التي تنطلق كل فترة ضمن الصراع القائم، من تلك العمليات الفدائية أو الاستشهادية تلك التي تمت في 2022 في مدينة جنين في السادس من رمضان، حيث خرج الشاب رعد حازم بمخيم جنين وفي أهم شوارع المدينة ليحصد خمسة من المحتلين ويصيب ستة آخرين ثم يختفي تماما، وعلى غرار تلك العملية انطلقت العشرات منها لتحقق نجاحات الصائمين التي تشبه المعجزات.
وها هو رمضان يأتي هذا العام بينما يسجل الفلسطينيون ملاحم أسطورية أخرى في غزة وجنين والقدس تؤكد أنه شعب ذو طبيعة خاصة، أقل ما يمكن أن يقال عنها، إنه شعب ذو ثقافة أصيلة، تأبى على النسيان.
رمضان يزيد الشعب الفلسطيني تمسكا بتراثه وأرضه ودينه.