رمضان.. شهر المقاومة

(1) ما بين السيطرة والإذعان
عرَّفَ الفيلسوف أرسطو الفضيلةَ قديمًا بأنها الوسطُ بين نقيضين؛ فالشجاعةُ وسطٌ بين التهور والجبن، والكرمُ وسطٌ بين الإسراف والبخل. وبهذا المعنى، تُعتبر المقاومةُ وسطًا بين السيطرةِ والخضوع؛ فهي الفعلُ الذي يُواجه التحكُّمَ ويُفلِت من الإذعان.
المقاومةُ محاولةٌ من الإنسان لتغيير واقعه ورفضِ الخنوع له والانسحاقِ أمامه. جميعُ رسل الله وأنبيائه كانوا ثائرين على الأوضاع السائدة في مجتمعاتهم، مُقاومين لها، وعاملين على تغييرها بالنصح تارةً، والترهيب من عذاب الله وعقابه الشديد تارةً أخرى. منهم مَن نجح في التغيير أثناء حياته كسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومنهم مَن تحقق التغيير بعد ذهابه كسيدنا عيسى عليه السلام.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsسورة الشورى والأسس الأولية للمجتمع السياسي
حينما تكون الدراما هدفًا وطنيًا
حرب غزة 2: الاستمرارية والتغيير على هامش التصعيد الإسرائيلي الأخير
حين نُمعِنُ النظر في فلسفة شهر الصيام، نجدُه في عمقه شهرًا لمقاومة الشهوات والتحرر من أَسْر العادات التي تحوَّلت مع الوقت إلى عبادات بقوة العادة وسيطرتها على العقل الباطن، فأصبحت تُسيِّر سلوكنا بدلًا من إرادتنا الحرة، وفقدنا معها القدرةَ على التغيير، وانْهَزَمْنا أمامها. يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي في كتابه “شروط النهضة”: “الحضارة تبدأ حين ينتصر الإنسان على نفسه”.
الصيامُ، بهذا المعنى، تَدريبٌ يومي طوال شهر كامل على كسر سيطرة العادات، وتحرير الإرادة من طغيان الشهوات الحسية. هذه المقاومة الداخلية هي الأساس الذي تُبنى عليه أي مقاومة خارجية ضد الظلم؛ فالأمة التي تستعبدها عاداتُها لا تقوى على مواجهة محتلٍ يسرق أرضها ويستحلُّ عِرضها.
(2) نصرة غزة فرض عين
مقاومةُ الباطل والتمسكُ بالحق والعدل جزءٌ لا يتجزأ من جوهر الإسلام. وهنا تصبح “غزة” عنوانًا لهذه المقاومة، بينما يُعتبر تخاذلُ العرب والمسلمين عن نصرتها وتمكين أهلها من أرضهم وإعادة إعمارها إثمًا عظيمًا سنتحمل وزره جميعًا شعوبًا وحكامًا. إن الصمتَ على ما يحدث في غزة والأراضي الفلسطينية المحتلة يحوِّلنا إلى كاتمين لشهادة الحق في زمن كَثُر فيه شهداء الزور، خاصة في الغرب الذي يُصرّ على التعامل بازدواجية معنا نحن العرب.
نلاحظ أن أوروبا تتوحَّد في مساندتها لأوكرانيا، مُعلنةً دعمها المالي والعسكري ضد الغزو الروسي، مُتحديةً بذلك موقف أمريكا ورئيسها. لكن هذا الموقف يتلاشى تمامًا أمام ما يحدث في غزة، حيث تُحمِّل الدول الغربية المقاومةَ الفلسطينيةَ المشروعةَ للمحتل مسؤوليةَ الدمار الهائل والإبادة الجماعية!
إذا كان الفلسطينيون قد هانوا على الغرب، فيجب ألا يهونوا على العرب والمسلمين، وأن تظل مطالبُهم العادلةُ في وطنٍ حرٍّ مُستقلٍّ تشغلُ تفكيرنا وتقودُ ضمائرنا.
لو تحوَّل الإسلام إلى مجرد طقوس نمارسها بالجسد دون أن يتغلغل جوهرُه إلى أرواحنا، فنحن بذلك ننزع منه أهمَّ ما يُميزه: مسؤوليةَ المسلم اتجاه الكون والإنسانية، وتطبيقَ معاييره الأخلاقية المستمدة من الدين في حياته اليومية. هذه المعايير يجب أن تكون البوصلةَ التي ترشده في الأزمات والمحن.
يظنُّ البعض أن ما حدث في غزة كان بسبب “طوفان الأقصى”، وأن كتائب القسام أخطأت التقدير. لكن الواقع يؤكد أن الأوضاعَ الإنسانيةَ المُزرية في غزة قبل الطوفان هي التي أدت إليه. وقد وصف الكاتب الأمريكي نعوم تشومسكي في كتابه “غزة في أزمة” القطاعَ بأنه “سجنٌ مفتوح” يعاني سكانه نقصًا حادًّا في الغذاء والدواء والكهرباء، وسط تدميرٍ منهجي للاقتصاد والمجتمع. ويُضيف تشومسكي أن الحصار الإسرائيلي المُفروض منذ 2007 جزءٌ من سياسة استعمارية تهدف إلى إخضاع الفلسطينيين وقمع أي مقاومة. كما يربط بين الدعم الأمريكي المالي والعسكري لإسرائيل واستمرار الانتهاكات ضد المدنيين، مُشيرًا إلى أن الحصار ليس “إجراءً أمنيًّا” بل عقابًا جماعيًّا ينتهك القانون الدولي.
بدوره، يصف المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه في كتابه “أكبر سجن على الأرض” الحصارَ المفروض على غزة بأنه حوَّلها إلى “مختبر للقمع الحديث”، حيث أصبحت الحياة اليومية معاناةً مستمرة. أما الباحثة سارة روي من جامعة هارفارد، فتُؤكد في كتابها “قطاع غزة: الاقتصاد السياسي لتراجع التنمية” (2016) أن تدهورَ غزة ليس كارثيًّا فحسب، بل هو متعمَّدٌ ومقصودٌ لهدفٍ واضح: جعل القطاع غير قابل للحياة.
إذن، لم يكن هناك مفرٌّ من المقاومة و”طوفان الأقصى”، ولم يكن أحدٌ يتوقع تداعيات هذه الحرب المأساوية. لكن موقف فصائل المقاومة يشبه موقف أنتيجون في تراجيديا سوفوكليس الشهيرة؛ فكما أقدمت البطلة الأسطورية على دفن أخيها رغم تهديدات الحاكم المستبد كريون بالإعدام، وذهبت إلى حتفها غير نادمة لأنها شعرت بأن ذلك واجبها الأخلاقي اتجاه أخيها ولم تطلب من خالها كريون الصفح أو المغفرة، فإن المقاومة الفلسطينية بقيادة كتائب القسام فعلت ما يجب عليها: مقاومة المحتل حتى لو أدى ذلك إلى الاستشهاد، فأبطال المقاومة ذهبوا إلى حتوفهم مرفوعي الرؤوس لأن ذلك واجبهم.
(3) فرصة ثانية
صيام رمضان ليس مجرد امتناع عن الطعام والشراب من الفجر إلى أذان المغرب فحسب، بل هو فرصةٌ ثانية سنويةٌ لتجديد العهد مع الذات، وتقوية الإرادة، ومقاومة شهوات النفس، والوقوف مع الحق ضد الباطل. وكما قال الفيلسوف الصيني لاوتسو
راقب أفكارك لأنها ستصبح كلمات
راقب كلماتك لأنها ستصبح أفعالًا
راقب أفعالك لأنها ستتحول إلى عادات
راقب عاداتك لأنها تُشكِّل شخصيتك
راقب شخصيتك لأنها ستحدد مصيرك”.
نحن ما نفعل، وعلينا أن نكون عند مستوى أفعالنا، وأن نتحمل مسؤوليتها؛ أفعالنا هي الاختيار الذي سيحدد موقفنا يوم الحساب أمام رب العالمين.
كل عام والأمة العربية والإسلامية بخير بمناسبة شهر رمضان المبارك. أعاده الله علينا وعلى أهل غزة بالأمن والسلام والخير والبركات.