التهجير القسري في القانون الدولي.. تغييب نصوص ومأساة أمة

الحديث عن تهجير الفلسطينيين من أرضهم، ليس حديثًا جديدًا، لكنه حديث متجدد مع كل مواجهة مسلحة في إطار الصراع الممتد منذ المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في مدينة بازل السويسرية 1897، مرورًا بوعد بلفور 1917، ثم قرار التقسيم الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة 1947، وإعلان قيام الكيان الصهيوني 1948، وصولًا إلى طوفان الأقصى في أكتوبر 2023، وما ترتب عليه من مآلات.
وكانت الموجة الكبرى من عمليات التهجير قد تمت بين عامي 1947 و1948، حيث تم تهجير أكثر من 750 ألف مواطن فلسطيني من أرضهم إلى دول الجوار، وتفيد بعض التقديرات بأن نحو 280 ألفًا من هؤلاء نزحوا إلى الضفة الغربية لـنهر الأردن، و70 ألفًا إلى الضفة الشرقية لنهر الأردن، و190 ألفًا إلى قطاع غزة، و100 ألف إلى لبنان، و75 ألفًا إلى سوريا، و7 آلاف إلى مصر، و4 آلاف إلى العراق.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsمآلات الدولة القومية في الغرب
أزمة الكتابة الدينية في بلادنا
عندما يستسلم العالَم للتطرف
وفي يناير/كانون الثاني 2020، طرح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مبادرته التي أطلق عليها في حينه “صفقة القرن”، وكان أحد أهم محاورها تهجير مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى مصر والأردن، ثم تجدد الحديث عن المبادرة مع عوة ترامب إلى البيت الأبيض، بعد فوزه في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2024.
ومع أهمية البعد الخاص بالاعتبارات السياسية وموازين القوى الإقليمية والدولية وتأثيراتها المهمة في هذا الملف، تأتي أهمية البعد الخاص بنصوص القانون الدولي ذات الصلة بقضية التهجير القسري، لأنه في حال العجز وعدم القدرة على الحسم يكون أحد السبل لحفظ الحقوق، هو اللجوء إلى القانون، ولو تأخر تطبيقه، وتأجلت العدالة.
التهجير القسري في اتفاقية جنيف الرابعة 1949
في عام 1949، تمّ توقيع اتفاقيات جنيف الأربع من أجل الحد من أثر النزاعات المسلحة والاحتلال، وقد اختصت الاتفاقية الرابعة بأوضاع المدنيين في زمن الحرب والاحتلال العسكري، ونصت على عدد من المحظورات في الحروب وحالات الاحتلال العسكري، كان أحدها التهجير القسري.
فقد نصت المادة 49 من الاتفاقية على أنه: “يحظر النقل الجبري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين أو نفيهم من الأراضي المحتلة إلى أراضي دولة الاحتلال أو إلى أراضي أي دولة أخرى، محتلة أو غير محتلة، أيًّا كانت دواعيه”.
ويقسّم هذا النص التهجير القسري إلى نوعين: “النقل الجبري”، وهو نقل السكّان قسرًا داخل حدود دولة أو أرض محتلة، و”النفي” وهو نقلهم قسرًا إلى خارج حدود دولة أو أرضٍ محتلة.
وأوضحت اتفاقية جنيف الرابعة أنّ الحظر يشمل النقل القسري أو النفي سواء كان الضحية شخصًا واحدًا أو أكثر. والحظر قائم سواء كان التهجير داخليًّا أم خارجيًّا، سواء كان إلى أراضي دولة الاحتلال أم غيرها من الدول. كما أوضح نص المادة أن سبب التهجير ليس ذا شأن في منع التهجير، فهو ممنوع بغض النظر عن الدافع من وراء التهجير.
كما نصت المادة 146 من الاتفاقية على أن “تتعهد الأطراف السامية المتعاقدة بأن تتخذ أي إجراء تشريعي يلزم لفرض عقوبات جزائية فعالة على الأشخاص الذين يقترفون أو يأمرون باقتراف إحدى المخالفات الجسيمة لهذه الاتفاقية، ويلتزم كل طرف متعاقد بملاحقة المتهمين باقتراف مثل هذه المخالفات الجسيمة أو بالأمر باقترافها، وبتقديمهم إلى محاكمه، أيًّا كانت جنسيتهم”.
ومن بين هذه المخالفات التي أشارت إليها المادة 146، وفصَّلتها المادة 147 “النفي أو النقل غير المشروع، والحجز غير المشروع”.
أركان جريمة التهجير القسري
تطور تعريف جريمة التهجير القسري بشكليها “النفي” و”النقل الجبري” بتطور الاتفاقيات الدولية المنظمة لها، إلّا أنّ المرحلة الأكثر أهمية في التعريف ارتبطت بمحاكمات يوغوسلافيا السابقة، حيث إنّ التطهير العرقي عن طريق التهجير القسري كان من سِمات الحرب اليوغوسلافية، وهو ما نتج عنه وجود عدد من المتهمين بارتكاب جريمة التهجير القسري.
وقد عرّفت المحكمة أركان جريمة “النفي” بأنها تتطلب: “(1) أن يكون هناك إبعاد قسري لأفراد؛ (2) أن يكون الأفراد موجودين بشكل قانوني في المكان الذي طردوا منه؛ (3) أن لا يكون هناك أي سبب حسب القانون الدولي يسمح بالطرد؛ (4) أن يكون التهجير عابرًا للحدود؛ و(5) أن يكون التهجير قد وقع عمدًا”.
أما جريمة النقل الجبري للسكّان فأركانها شبيهة بأركان جريمة النفي، باستثناء العنصر الرابع، فجريمة النقل الجبري قد تقع داخل حدود الدولة ولا يُشترط أن يعبر المهجَّر الحدود. أما عن معنى كلمة “جبري” أو “قسري” فقد عرفتها المحكمة بأنها “… وقعت عن طريق الطرد أو أشكال أخرى من الإجبار؛ ممّا جعل الهجرة غير طوعية بطبيعتها، ومما جعل المجني عليه لا يملك خيارًا حقيقيًّا في هجرته”.
كما أضافت المحكمة أنّ “غياب الخيار الحقيقي هو ما يجعل من التهجير مخالفة للقانون”، وأنّ التهجير يكون قسريًّا حتى لو تم استخدام أساليب أخرى مثل “الخوف من العنف، الإجبار، الاعتقال، الاضطهاد النفسي أو استغلال النفوذ أو استغلال بيئة تجبر الأشخاص على النزوح”.
التهجير القسري وميثاق روما 1998
اعتبر ميثاق روما المنشئ للمحكمة الجنائية الدولية أن التهجير القسري بشكليه (النقل القسري والنفي)، جريمة ضد الإنسانية. ففي المادة (7) فقرة (1) بند (د)، نص الميثاق على أنّ هاتين الجريمتين تعتبران جريمة ضد الإنسانية إذا كانتا موجهتين ضد سكّان مدنيين وإذا ارتكبتا على نطاق واسع أو بشكل ممنهج.
وجاء في نص المادة: “يعني “إبعاد السكان أو النقل القسري للسكان” نقل الأشخاص المعنيين قسرًا من المنطقة التي يوجدون فيها بصفة مشروعة، بالطرد أو بأي فعل قسري آخر، دون مبررات يسمح بها القانون الدولي”.
كما نصت المادة (8) من الميثاق فقرة (2) بند (8) على أن الإبعاد أو النقل القسري للسكّان يعتبران جريمة حرب، وتقصد به “قيام دولة الاحتلال على نحو مباشر أو غير مباشر، بنقل أجزاء من سكانها المدنيين إلى الأرض التي تحتلها، أو إبعاد أو نقل كل سكان الأرض المحتلة أو أجزاء منهم داخل هذه الأرض أو خارجها”.
تغييب النصوص وتدمير أمة
رغم وضوح وصرامة هذه النصوص من الناحية القانونية الدولية، فإن هذا لم يمنع الكيان الصهيوني من انتهاكها، ولم يمنع حلفاء الكيان من الحديث المتكرر عن التهجير القسري للمواطنين الفلسطينيين، وتحديدًا من مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة، في الوقت الذي يتم فيه السماح بالهجرات غير المشروعة لليهود والسماح لهم ببناء عشرات المستوطنات على حساب أراضي وبيوت الفلسطينيين.
ورغم صدور العشرات من القرارات والبيانات الدولية والإقليمية المنددة بممارسات دولة الاحتلال، تبقى الاعتبارات السياسية هي الحاكمة، وموازين القوى هي الفاعلة، ويتم تغييب وتجاهل النصوص القانونية، لصالح الأطراف المؤثرة في العلاقات الدولية.
لكن هذا لا يعني تجاهل هذه النصوص من طرف المستضعفين، بل ينبغي التمسك بها والحرص على توثيق جرائم وانتهاكات قوات الاحتلال، فقد تتغير الموازين، ويجد المستضعفون من ينصر قضاياهم، ويحقق لهم العدالة المهدرة اليوم.