في خلاصة الحرب والإبادة.. لا سلام مع نتنياهو

يذكرنا فيودور دوستويفسكي في الجريمة والعقاب بأحد الدروس المهمة في الحياة، وخاصة في مواجهة الألم والمعاناة، وهي خطورة التعود والتعايش مع القبح بقوله الشهير: “بكوا في أول الأمر ثم ألفوا وتعودوا، إن الإنسان يعتاد كل شيء، يا له من حقير”.
ولكن هذا التعود و”الحقارة” اللذين تحدث عنها دوستويفسكي واللذين يبدآن من مستوى الفرد وعالمه المقيد ويتجاوزانه بمراحل، يطرحان تعقيدات أكثر عمقا في عالم السياسة التي يتعامل معها البعض بوصفها عالمًا خاليًا من القيم والأخلاق، تحكمه القوة والسلطة، ويكتب فيه المنتصر التاريخ من وجهة نظره.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsعندما يستسلم العالَم للتطرف
تصعيد غير مسبوق للمعارضة التركية.. لهذه الأسباب!
حرب الذكاء الاصطناعي
قد تبدو تلك المقولات الميكافيلية الطابع في تعظيم المصلحة متناقضة مع عالم تتعدد فيه العقوبات التي تفرض على الدول والحكومات باسم انتهاكات الديمقراطية، وانتهاكات حقوق الإنسان، والتجاوز في إجراء الانتخابات، والمحاكمات غير العادلة، وغيرها من العناوين الكبرى البراقة التي تعايشنا معها عبر عقود بوصفها مسلمات عالم متحضر ينطلق من الإنسان ويسعى للحفاظ على كرامته وحريته، وبالطبع على حياته.
لكن، وبغض النظر عن تلك الأحاديث الكبرى عن الديمقراطية والحقوق والحريات، تظهر حرب غزة الخامسة، بشكل أكبر من غيرها، تلك الأحاديث بوصفها مجرد “شعارات” أحيانا وأدوات في معظم الأحيان توظف من أجل المصالح، وتتم قراءتها والتعامل معها وفقا لتلك المصالح. في هذا السياق يتم التجاوز عن حقوق الإنسان والإنسان نفسه من أجل التضامن مع إسرائيل و”حقها في البقاء”، ويتم التجاوز عن سياسة التجويع وتجريم دولة لوكالة أممية كما فعلت تل أبيب في التعامل مع الأونروا من أجل التضامن مع “حق إسرائيل في الدفاع عن النفس”، ويتم التجاوز عن كل صور جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية من أجل دعم “أمن إسرائيل”، ويتم التجاوز عن حرية التعبير بوصفه تعبيرا عن “عداء ضد السامية”، وتجريم دعم الحق الفلسطيني بوصفه “خطاب كراهية”.
العالم الديمقراطي لا يرانا
لا تتوقف الدول “الديمقراطية” عند هذه الحدود في تجاوز كل القيم والمعايير الأخلاقية والقيم الإنسانية، بل تتجاوز هذا في التعامل مع المحاكم الدولية والاتفاقيات التي يفترض أن تلتزم بها بحكم التوقيع عليها كما هو الوضع في التعامل مع المحكمة الجنائية الدولية ومذكرات التوقيف الصادرة عنها ضد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنامين نتنياهو ووزير دفاعه الأسبق يوآف غالانت، التي لم تشهد فقط توقف بعض الدول أمام التزاماتها المفترضة للتفكير حول الالتزام من عدمه، أو طرح التعامل مع المذكرات بوصفها ساحة للنقاش، بل تحدّت دول أخرى مذكرات التوقيف والقانون الدولي الذي تعبر عنه وهي تتناول إمكانية إضفاء وضع استثنائي خاص على نتنياهو وغالانت، أو استثناء نتنياهو خلال حضور أحداث محددة، في حين أسقطت دول أخرى كل هذا وهي توجه دعوات إلى نتنياهو لزيارتها.
تبرز حرب غزة الخامسة مرارا كيف أن العالم لا يرى فقط بعين واحدة تحسب مصالحه بعين الحقوق والحريات، ولا يرى ما هو خارجها إلا بوصفه تنويعات يمكن أن يختار التعامل معها كما يشاء بين ما هو إنساني وما هو غير إنساني؛ بل يرى ويدرك ويقرر بشكل واضح يتحدى فيه القوانين والقيم وهو يتجاوز حق إنسان في الحياة من أجل ما يراه الآخر حقه في الأمن والوجود ضمن مباراة صفرية تفتقد كل القيم والإنسانية.
تبرز حرب غزة الخامسة كيف أن هذا العالم “الديمقراطي” لا يرانا ولا يرى ما لدينا من معاناة في العديد من الأحيان عندما لا تحقق مصالحه أو تهدد مصالح معسكره المصنف ذاتيا بأنه ديمقراطي ومتقدم بغض النظر عن الممارسات الفعلية وانفصالها عن تلك المفاهيم. كما تبرز كيف يخرجنا من دوائر الإنسان قبل أن يخرجنا معها من دوائر الإنسانية والحقوق والقوانين.
كائنات غير بشرية
تظل الإشكالية الكبرى في تعاملنا مع تلك الدعاوى نفسها بوصفها حاكمة في مرحلة ما بعد حرب غزة الخامسة كما كانت قبلها، والتعامل معها بوصفها قيودا إنسانية حقيقية يفترض أن تستمر في فرض الإملاءات الغربية بدون قواعد أو ضوابط إلا ما تراه تلك الدول فقط. تظل الإشكالية في عدم التوقف في مرحلة ما بعد حرب غزة الخامسة عن قبول تهميش “نحن” من أجل “هم”، حيث تعبر “نحن” لدى البعض عن كائنات غير بشرية، و”هم” عن البشر أصحاب الجدارة بالواقع الفعلي للقيم الكبرى والحقوق والحريات.
أوضاع تعيد إلى الواجهة حديث غالانت عن سكان غزة بوصفهم مجرد “كائنات غير بشرية” يمكن له بسهولة، كما شهدنا، أن يمنع عنهم الماء والغذاء والدواء، ويستخدم سلاح التجويع والتدمير والتهجير، ليس فقط دون حساب أو عقاب، بل في ظل مظلة حماية دولية تحمي المجرم ولا تتعامل معه بهذا الوصف، بل وتجرم في العديد من الأحيان الضحية، ربما لقدرتها على الاستمرار على وجه الحياة وعدم الموت بصمت حتى لا تجرح صورة العالم المتقدم.
وكما يتم التجاوز عن حقيقة أن التعامل يفترض أنه يتم مع مجرمين متهمين بارتكاب جرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية، وفقا للعديد من التقارير الدولية والأممية، يتم التجاوز عن إسرائيل بوصفها دولة احتلال. ومع التجاوز عن تلك الجزئية الأخيرة المهمة يتكرر سيناريو غزة في الضفة الغربية، وبعد تدمير القطاع بشكل غير مسبوق، تبدأ إسرائيل تدمير مربع سكني في مخيم جنين في الثاني من فبراير/شباط ٢٠٢٥، فما لم تحاسب عليه في صورته الأكثر بشاعة لا يتصور أن تحاسب عليه في صورته المصغرة، على الأقل مرحليا ودون قيود على ما يمكن أن يلي ذلك من تدمير لا يستهدف الإنسان والمكان فقط، بل فكرة الدولة وجهود تصفية القضية الفلسطينية. كما تعيد تكرار سيناريو الاحتلال وتجاوزاته مرارا من القطاع إلى جنوب لبنان وسوريا، في الوقت الذي لا تتوقف فيه عن انتقاد عدم التزام الطرف الخاضع للاحتلال باحترام الاحتلال؟!
مرآة الواقع
في نفس السياق، وربما في الصورة الأكثر وضوحا منه فيما يخص تجاوز وضعية الاحتلال منذ بداية الحرب، ينتظر العالم رؤية دولة الاحتلال لمستقبل الشعب الخاضع للاحتلال مرات ومرات. هل يتحقق أمن إسرائيل عبر تجويع السكان، أم عبر قتل أكبر عدد ممكن؟! وإذا لم يتحقق الأمن عند هذه الحدود، وبعد تدمير ما بين ٧٠ و٩٠ بالمئة من المنازل والبنية التحتية وقتل وإصابة أكثر من ١٦٠ ألف مواطن فلسطيني، فهل يمكن تهجير من نجا من الموت؟ وهل يفضل أن يكون التهجير جماعيا أم يمكن تهجير جزء من سكان القطاع وتحويل “الأقلية” الأخرى في تلك الحالة إلى هامش؟! وهل يكون التهجير قسريا واضحا في مخالفته للقانون الدولي، الذي تم تجاوزه مرات يصعب حصرها على ما يبدو، ومتطلبا المزيد من التنديد والشجب، أم يمكن تمريره “شكليا” ومن أجل حفظ ماء الوجه بوصفه “تهجيرا إراديا” يتم الدفع إليه عبر المزيد من التجويع والقتل والتدمير؟!
ولكن، يظل السؤال المهم في مرحلة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ما هي حدود القبول بتطبيع نتنياهو وحكومته المتهمة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وإبادة جماعية؟ وكيف يتم تجاوز ممارسات الجاني ومحاولة بناء سلام ما وفق شروطه؟ وكيف يرى البعض أن مثل هذا السلام ليس فقط ممكنا ولكنه مقبول من حيث الفكرة للطرح ابتداء؟
يظل السؤال ما هي حدود القبول باللقاء والتقاط الصور مع شخصيات صدرت بحقها مذكرات اعتقال دولية ويفترض أن تحاسب دوليا على تلك الانتهاكات الجسمية وارتكاب جرائم الإبادة الجماعية التي تعد جريمة الجرائم؟ وربما الأكثر أهمية كيف يمكن تطبيع نتنياهو عبر البوابة العربية نفسها ثم نطالب باحترام الحقوق والحريات العربية والقانون الدولي وحل الدولتين بوصفه أساس الحل القانوني والسياسي للقضية الفلسطينية؟ كيف نتحدث عن الفظائع التي شهدتها غزة ونطالب بدعم سكان القطاع ودعم صموده في مواجهة خطط التهجير ثم نقبل النقاش مع القائم بتلك الجرائم نفسه من بوابة فرض مستقبل القطاع والإقليم وصورة سلام إقليمي ما؟!
تضع غزة الجميع أمام مرآة الواقع، وأمام تلك المفارقة الكبرى بين حديث القيم والحريات واحترام القانون الدولي، وبين قبول مرتكب الانتهاكات ومخترق القانون والاتفاقات الدولية، أو بالمجمل تمرير الجاني على حساب الضحية، والبحث عن موقع يمكن أن توضع فيه الضحية أو يتم فيه إخفاء الضحية حتى يمكن أن يشعر العالم بالراحة، ويستمر في تكرار نفس حديث الديمقراطية المكرر دون حساب أو ضوابط.