حمدين صباحي بين جذرية الثائر ومرونة السياسي

أقدم السياسي المصري والمرشح الرئاسي السابق حمدين صباحي على تقديم كشف حساب لأخطائه حسب تعبيره خلال 14 عاما هي عمر ثورة يناير 2011، وقد قوبلت المقالات التي نشرها بسيل من الهجوم عليه، وأظنه هجوما اعتاد عليه طوال تلك السنوات، وفي المقابل قدر كثيرون خطوته محمودة ورأوا على كل المحسوبين على ثورة 2011 أن يحذوا حذو السياسي صاحب التاريخ الطويل في العمل السياسي والثوري، وإذا كان هذا مطلوبا من الذين شاركوا في يناير، فهو مطلوب أكثر من قادة الثورة أمثال البرادعي، وقيادات التيارات السياسية وأيضا من قادة الإخوان المسلمين.
ربما يكون الشرط الأساسي والأسمى في اعتذار حمدين أو غيره ألا يبحث أي منهم عن بطولة فردية أو هروب من المسؤولية وإلقائها على الآخرين، وقد استقبلت مقالات حمدين بترحاب وليس بعين المحب وهي حقيقة فهو صديق وقيادة منذ تعارفنا الأول في مظاهرات حرب الخليج الأولى، وليس بعين الناقد والمختلف معه وهذا أيضا موجود خاصة في السنوات السبع الأخيرة وفي مواقف كثيرة لا أنكرها وفي ذات الوقت لازلت متمسكا بها.
مأزق الواقع المصري
الخريطة السياسية المصرية بتنوعها الكبير وتعدد تياراتها الكثير، ومحاولات السعي لإيجاد مسعى وطريق من خلال هذه التيارات يسبب العديد من المآزق التي يقع فيها المشتبك مع الحياة السياسية في مصر وخاصة من الشباب، وقد كان لجيل السبعينيات الذي ينتمي له حمدين حظا أوفر في رحلة صعودهم السياسي فكانت الأمور محسومة من منتصف الستينيات وحتى بداية الثمانينيات من القرن الماضي، نحن أمام عدو واضح للجميع هو الكيان الصهيوني، أمام قضايا وطنية جامعة كالعدالة الاجتماعية، التصنيع، والوقوف ضد الهيمنة الأمريكية على الأمة العربية.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsحول الإعلام الداعم للمقاومة
إعادة تدوير القول الغربي!
لماذا سفير لأمريكا في إسرائيل؟!
تلك الأمور جعلت الرؤية واضحة وجامعة لأغلب التيارات السياسية وحددت قواعد الارتباط بالتنظيمات السياسية في معارك واضحة، وعندما بدأت سنوات مبارك ثم بدأ ما نطلق عليه انفجار الأحزاب السياسية (104) أحزاب نهاية عصر مبارك وكذلك تنوع الطبقات الاجتماعية والاقتصادية بعد سنوات من اتفاقية السلام (الاستسلام) المصرية الإسرائيلية برعاية الولايات المتحدة، وسياسات الانفتاح الاقتصادي بدأت لعبة السياسة تتحكم في السياق المصري.
هنا ظهر ما يسمي بلغة السياسة، وإذا كانت السياسة هي فن الممكن كما في بعض التعريفات، ولعبة الموازنات والمواءمات فقد فرض هذا التعريف والمواءمة والتوزان الكثير على من يمارس السياسة في مصر، وأصبح الثوري الجذري منبوذا ويقال عنه حنبليا نسبة إلى الإمام أحمد بن حنبل.
هذه الحالة خلفت ثنائية داخل أي راغب في العمل الوطني والعام اتذكر موقفا أثناء كتابة القوانين التشريعية للهيئات الوطنية للإعلام وكان هناك خلاف بين فريقين حول انتخاب رئيس الهيئات أوتعيينه وكان معي الزميل الصحفي والإعلامي عامر الوكيل في تشدد أنه يجب انتخابه، فصاح بي نقيب الصحفيين في ذلك الوقت الصديق يحيى قلاش، والإذاعي حمدي الكنيسي “أحنا مش في ميدان التحرير” وكان المعنى واضحا الآن وقت السياسة والمتاح والممكن.
هذا الموقف تعبيرا عن حالة مصرية نبتت في العقد الأول لحكم مبارك.
وهي حالة تتناقض تماما مع حالة الثوري والجذري الذي رفض الخروج من الميدان واستمر أكثر من عام ونصف حتى إعلان فوز محمد مرسي بالانتخابات الرئاسية، وهي الخطيئة الأولى التي اعترف بها حمدين وأطلق عليها “الخروج من الجنة” أي جنة الميدان التي عشناها لمدة اسبوعين، وانفضت عشية تخلي مبارك عن السلطة وتكليفه مجلسه العسكري بها ، واعتقد كان السبب الرئيسي فيها هو تعريف السياسة أنها فن الممكن والمتاح الذي شاع في مصر.
حمدين بين السياسي والثوري
الاخطاء الخمسة التي أقرها حمدين صباحي في مقالاته السبعة المنشورة التي أرى أنه لم يكن يستطيع أن يتفاداها في ظل ما أشرت اليه، و أنها نوع من جلد الذات بعد انتكاسة كبيرة لأحلام الثوار والثورة فهو لا يتحمل مسؤوليتها كاملة، فمثلا ماذا كان سيحدث إذا قرر حمدين السياسي عدم الخروج من الميدان في ظل خروج جميع القوى السياسية ما عدا القليل من الشباب الذين رفعوا شعار “لسه النطام لم يسقط” كان سيأتي إليه بعضهم ليقنعه أن هذا هو الوضع والواقعية تقتضي الخروج والدخول إلى تنافسات (ديمقراطية) كما قيل وتحت ضغط من هنا وهناك سيخرج حمدين السياسي لأنه أختار السياسي ولم يختر الثوري.
لم تكن تلك المرة الأولى التي يختار فيها السياسي بديلا للثوري فقد دخل انتخابات برلمانية ثلاث مرات في ظل نظام يتناقض تماما مع قيمه الثورية نجح في مرتين وأسقط في الثالثة وفي كل الحالات كان تحت ضغط السياسة وفن الممكن، ولا أذكر هنا دخوله انتخابات نقابة الصحفيين لخصوصيتها.
لقد تحول حمدين ثوري السبعينيات والثمانينيات إلى سياسي بقدوم التسعينيات والألفية الجديدة وهنا كان المأزق التي عاشه طوال 14 عاما من عمر الثورة المصرية، فقد قبل من رئيس مخلوع أن يكلف مجلسه العسكري، ودخل في تفاوض مع القوى الوطنية على انتخابات تحت رعاية المجلس وبإعلان دستوري، واستمر في تحالفه والثوار في محمد محمود يقاتلون، وفي مجلس الوزراء.
ثم كانت انتخابات الرئاسة الأولى 2012 في ظل نفس الظروف وفي هذه الانتخابات ظهر حمدين الثائر بخطابه ووضوحه ودخل قلوب الملايين، وعاد حمدين السياسي مع إعلان نتيجة الانتخابات وقبل النتيجة رغم وجود شواهد على تغييرها، أتذكر كنت واحدا من الآلاف أمام مقره الانتخابي ننادي بالطعن ولكن حمدين (السياسي) ومن معه من اصحاب نظرية “لقد حققنا نتيجة عظيمة نبني عليها وده المتاح” قبلوا الحالة.
لم يسمع حمدين لصوت الشباب الذين كانوا يرون أن هذا موقف جذري ثوري، وهو ما تكرر عندما تم مد انتخابات الرئاسة 2014 ليوم ثالث وهو ما يبطل الانتخابات أصلا ولكن طل علينا حمدين السياسي أيضا ليعلن استمراره رغم أن شباب الحملة ومناصريه قد اعترضوا على ذلك وهو الخطأ الذي أشار اليه في اعتذاره، وأن كنت أرى أن الخطأ الذي اعتذر عنه وهو دخوله الانتخابات في ذات العام ليس خطأ ولا خطيئة بل انه موقف جذري كان عليه أن يتمسك به حتى الآن ولكن لأن حمدين السياسي يطل علينا دائما وتحت ضغط التشويه، والانتقاد الصراخي الذي تعرض له يعتذر عن موقفه الثوري الوحيد.
اعتذروا واحسموا للمستقبل
الحيرة بين حمدين الثوري القديم وحمدين السياسي الواقعي والحديث هي أحد اسباب وصولنا جميعا لما نحن فيه، فالأغلبية العظمي ممن مارسوا السياسة خلال عمر الثورة المصرية وقعوا في نفس الحيرة وخاصة غير التنظيميين في أحزاب أو جماعات، وهنا لا عتاب على أبناء هذه الجماعات والأحزاب فذلك طريقهم منذ النشأة حتى نهايتهم أصحاب فن الممكن.
لكن الغريب في سنوات الثورة المصرية هو وقوع الشباب في تلك الحيرة وهذا المأزق الذي وصل بنا إلى هذا الحال، أغلبهم كانوا يجدون في كلمة “هي دي السياسة” هروبا وعدم اتخاذ موقف ثوري جذري فقبل منهم الكثير جدا ما فرضته ظروف السياسة رغم تضحيات كثيرة لهم في ميادين الثورة وما حدث في عديد من الوقائع محمد محمود أول وثاني، مجلس الوزراء، قبلها موقعة الجمل، أحداث البالون وغيرها، ولكن في النهاية كانوا اصحاب مواقف بين بين، أما من استمر في خطه الثوري فالأغلبية منهم مصيرهم معروف.
أخيرا أعتذر حمدين صباحي والأخرون الذين نتمنى ان يجدوا الوقت ليعترفوا أو يتحدثوا عما حدث منذ يناير حتى الآن لا يجب ان يصبح محاولة للفكاك من المسؤولية، وليس أياما للقذف والسب والانتقاد والهجوم، والمديح وإعادة عقارب الساعة للوراء، وليس للعودة لتنافس سياسي وانتخابي كما قال حمدين في حواره مع الجزيرة مباشر وأنا معه في ذلك وطالبته منذ سنوات، ولكن تلك الاعتذارات والاعترافات لو توالت وأتمنى أن تحدث مهمتها المستقبل و قبل ذلك أن يحسم الشباب والقادمين للمستقبل الموقف أما ثوري جذري وأما سياسي راقص على عزف مجتمع أكتفي من التشتت والفرقة فكريا وسياسيا.