اليسار العربي ليس يسارا ولا تقدميا

إذا كان اليسار العربي لا ينقد نفسه، فإن تكبره وتعاليه لا يضعه فوق النقد.
لذلك فإننا في هذه الأيام الصاخبة بالتحولات نتحرر من غطرسة اليسار ونقول اليسار العربي ليس يسارا ولا تقدميا ولا عربيا، ونضيف بداءة اليسارية موضة فكرية مفوتة. انتهت في كل مواضع ظهورها العربية إلى خدمة الأنظمة ومعاداة الشعوب.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsلعبة السياسة في تركيا.. “غلطة الشاطر بألف”
“لحظة حزينة في عالم السينما”.. إلقاء الحجارة على الأوسكار!
ورطة الجامعة العبرية
استوعبنا الصورة الرومانسية المستوردة من ثقافة الغرب وأكاديمياته السياسية لليساري (الكوني) حامي الطبقة العاملة والمناضل من أجل العدالة والمساواة، ومقارنة الصورة المصنوعة (الأيديولوجية) إلى واقع الحال العربي تكشف لنا ألا وجود ليسار عربي ولا لنضال اجتماعي وإنما نخب قليلة العدد وكسولة وأصولية منغلقة وخيانية، وسنفصل بقدر ما يتسع المقال القصير.
أين يقف اليساري العربي؟
توجد هنا صعوبة في تدقيق التعريف فاليساري العربي أعلن عن وجوده وسمى نفسه يساريا دون أن يسمح لأحد بتعريفه، وقد منح نفسه صفة التقدمي والثوري ويضيف إليها أحيانا القومي العربي، ولم يقدم دليلا ملموسا على صفاته.
يشترك اليساري العربي في إعلان تقدميته مع نخب أخرى زعمت تبني فكر الحداثة الغربي نازعة عنه صفته الغربية لتحوله إلى فكر كوني يتحتم تبنيه لتحصيل صفة التقدمية، لذلك فإن تيار الحداثة ضم ومنذ خضوع المنطقة العربية للاستعمار المباشر ليبراليين ويساريين يتنازعون صفة التقدمية ويتزايدون بها، لكنهم يتفقون في أمر مهم معاداة الثقافة المحلية ذات المرجعية الدينية باعتبارها مصدر التخلف والرجعية والمظالم الاجتماعية، ثم ألحق بها وصم مصدر الإرهاب العالمي.
المسار النظري “الطبيعي” لليساري أن يكون منحدرا من الطبقة العاملة وحاملا لهمومها المعيشية يقف معها ويقودها ضد تغول قوى الهيمنة المحلية (رأس المال التابع وتعبيراته السلطوية أي الأنظمة العربية التابعة للاستعمار أو الكمبرادور) والإمبريالية العالمية صانعة الهيمنة، لكن واقع الحال أن اليساري العربي هو ابن المصعد الاجتماعي الذي صنعته الأنظمة، وقد انتمى اجتماعيا إلى ما اصطلح عليه بالطبقة الوسطى (أو البرجوازية الصغيرة) رغم هلامية هذه الطبقة (مهن حرة ووظائف عالية وتجار صغار ومهربين على الحدود).
ومن موقعه هذا وجد نفسه يعيش تناقضا كبيرا بين منحدره الفقير ومآله المرفه، فلم يراجع ليتحول إلى ليبرالي فكرا ونضالا بصفته طبقة وسطى، بل أمعن في ترويج يساريته ولم ينتبه إلى أنه تحول في موقعه الجديد ورغم خطابه “الثوري” إلى جزء من السلطة الحاكمة في كل قطر.
ولكي يغطي هذا التناقض احتفظ من اليسارية فقط بمعاداة شعبه حاصرا تقدميته في محاربة كل من يعبر عن الدين والتدين. بالظاهر معاداة التيار الرجعي المتخلف وتعبيراته الواقعية أو ما اصطلح عليه بالإسلام السياسي، وبالباطن كل تعبيرة دينية بما في ذلك رفع الآذان في المساجد.
حصل هنا نوع من الاتفاق الصامت بين الأنظمة الفاسدة وبين تيارات اليسار ونخبه. منحت السلطة اليسار مواقع في الإدارة (الجامعات) والدولة عامة (الأمن والقضاء والإعلام) فاليسار يسيطر على صناعة الثقافة والتعليم ويوجه عالم الأفكار ويمنع غيره من الولوج إليها. مقابل هذه المواقع التنفيذية الفعالة تولى اليسار حرب السلطة ضد أهم معارضيها أي التيار الإسلامي.
تقسيم أدوار فعال اشتغل بكفاءة طيلة عقود دولة الاستقلال. (يسار تقدمي في الوزارات والجامعات والقضاء ونخب اقتصادية فاسدة تحكم عالم المال وتراكم الثروات وإسلاميون في السجون).
وقد أثبت هذا التوزيع فعاليته بكفاءة أكبر بعد الربيع العربي الذي خلق فرصة بالصندوق الانتخابي لوصول إسلاميين إلى موقع القرار، فتصدى اليسار لوجود الإسلاميين في السلطة وأسقطهم لصالح النخب الفاسدة نفسها التي ثار عليها الناس، وقد عاد الوضع الاقتصادي والاجتماعي إلى ما كانت عليه الحال قبل 2011. الطغم الاقتصادية الفاسدة استعادت مكاسبها (وشركاتها) وسلطتها الفعلية، واستعاد اليسار مواقعه في خدمتها ولم يقبض الفقراء شيئا.
نلقي هنا جملة مهمة سنعود إليها في مقال لاحق، عجز الإسلاميين عن الحكم (أو دروشتهم) لا تعني أن اليسار أقدر منهم أو أعرف بما تريده الشعوب، لأن الربيع العربي في عمقه ثورة اجتماعية يفترض حسب النظرية أن يتبناها اليسار ويقودها ليس لإقصاء الإسلاميين (الموصومين بالليبرالية)، بل لإحداث تغيير اجتماعي بأفق تحقيق العدالة والاستقلال. (هكذا في كراسات اليسار النظرية).
أين اليسار العربي من ذلك؟ واقع الحال أن اليسار العربي خان الطبقة العاملة والمهمشين أو “البروليتاريا” الرثة، واحتفظ فقط بوصم الإسلاميين بالعجز والخيانة والرجعية والظلامية والإرهاب، وهي قائمة الوصوم الصادرة عن الجامعات الغربية ومراكز صنع القرار الغربي المعادي لكل تيار وطني في بلدان الجنوب منذ محمد مصدق إلى محمد مرسي، والتي يروجها اليسار العربي بكفاءة تفوق من أصدرها.
لا وجود ليساري عربي.
عشنا مع اليسار التونسي وقارناه باليساري العربي، وقرأنا لجميعهم ما وقع بين أيدينا، ونجزم بقوة لا وجود ليساري عربي. توجد نخبة متعلمة وفي الغالب تعليما متوسطا (وكثير ممن ترقى في الأكاديميا تخلى عن يساريته) قادتها نوازعها الذاتية وحاجاتها الفردية إلى الكمون داخل مواقع المنفعة، فحمت نفسها بما كسبت، وكانت وسيلة الحماية الأنجع هي خدمة السلطة القائمة. (توجد استثناءات فردية تؤكد هذا الحكم البات).
احتاجت السلطة (كل الأنظمة العربية) إلى أن تروج عن نفسها صورة أنظمة تقدمية ترسخ فكر الحداثة لتغطي فسادها وبعدها عن الديمقراطية، وهي صفة ملازمة وأساسية لتقدمية أنظمة الغرب (على الأقل مع شعوبها)، فقدّم لها اليسار هذه الخدمة ونجح في ستر عوراتها غير الديمقراطية.
كانت هذه بوابة الانحراف الكبرى للفكر اليساري (الكوني) في المنطقة العربية. محاربة التيار الديني كمهمة وحيدة، وهذه المهمة اقتضت أن يعادي اليسار الثقافة الأصيلة، لأنها تحولت عنده إلى مصدر التخلف، “فتنظيف المصدر/النبع” يؤدي إلى القضاء على (الماء العفن الذي يسيل منه) أي التيار الإسلامي، فوجد اليسار العربي نفسه يخوض حربا ضد الشعوب التي خرج منها، وهي الحرب التي قطعت صلته بواقع الناس فانعزل في مجموعات صغيرة بلا شعبية ولا سند من الناس، وقد فضح حجمه الصندوق الانتخابي حيث ما شارك في انتخابات.
لم ينتبه اليسار ولا نظنه يفعل أن الناس (الشعوب) ليست إسلامية بل مسلمة، وهي في جوهرها محافظة على تدين بسيط وغالبا قليلي التعبد، لكن الخلط بين المسلمين (الشعوب) والإسلاميين (التيارات السياسية) جعلهم يعادون الإسلام كله بتعبيراته الشعبية خاصة في المرحلة التي تبنى فيها اليسار كل القضايا الخلافية التي أوحت له بها مجاميع اليسار الغربي مثل قضية المثلية. (يوجد هنا انحراف وافد فاليسار الغربي وخاصة الفرنسي منه نسي قضايا العدالة الاجتماعية وانخرط في قضايا ومحاور نضال ليبرالية بالأساس، ووصلت الكراسات اليسارية الجديدة إلى اليسار العربي فتبناها دون مراجعات نقدية)، فالمهم أن يحمي صفته التقدمية أمام أساتذته الغربيين لا أمام شعوبه، فشهادة التقدمية تأتي من هناك ومعها كمية مكاسب ليس أقلها “فيزا شنقان” مفتوحة للنخب أو جائزة نوبل.
خسارات الشعوب العربية.
في التجربة الديمقراطية اليتيمة بعد الربيع العربي مالت الشعوب (المسلمة عقدية) إلى الإسلاميين، لكنها سقطت معهم لما أسقطوا، فوجدت نفسها مرة ثانية وعاشرة أسيرة معركة اليسار مع الإسلاميين، وجوهر المعركة هو شعوب مفقرة ضد أنظمة فاسدة (وبعض فسادها ادعاء حماية الإسلام وهذا موضوع لحاله).
يقف اليساري العربي كالغصة في حلق الشعوب، لأنه يقدم معركته الأيديولوجية على المعركة ضد الفقر وغياب العدالة، ولا يظهر لنا أفق لتجاوز هذه المعركة إلا بحسم عنيف يخشاه الضحايا قبل المجرمين.
الشعوب العربية تخسر كل يوم مستقبلها وتعاني للبقاء لأنها تعجز عن فهم هذه المعركة فلا تجد الوسائل لتجاوزها، والإسلاميون لا يظهرون أية قدرة أو رغبة في خوض نزال عنيف مع يسار السلطة، وهي التسمية التي نراها تلائم اليسار العربي. (الموقع الحقيقي لليسار هو يمين السلطة الحاكمة لا يسارها).
إن النخب الليبرالية التقدمية المؤمنة بالديمقراطية قولا وفعلا هي القادرة على فرض معارك الديمقراطية وهذا أمر نظري بعد، لكن هذه النخب لا تفلح في التنظم أمام نخب اليسار، فاليسار يحكم الجامعات ومواقع صنع الأفكار والثقافة والإعلام (هبته من الأنظمة الفاسدة). يكفي أن نذكر بأن أي مفكر أو سياسي ليبرالي لم يعلن الحرب على الإسلاميين ولم يشارك في استئصالهم وصم بالرجعية، فارتبك فعجز.
إن الأفق الوحيد المتاح لاستئناف الديمقراطية عربيا هو تجاوز الغصة اليسارية، وهذا مرهون ببناء تحالف شجاع بين تيار ليبرالي عربي والتيار الإسلامي شريطة أن يتجاوز التياران خطأ جسميا وقع فيه كلاهما في مرحلة الربيع العربي.
وهما تفضل الليبرالي على الإسلامي بحمايته مقابل صوته، وعدم تفضل الإسلامي على الليبرالي بالتصويت له واستعماله دريعة لترويج فتوحاته.
هل تبنى هذه الشراكة يوما؟ إننا نراها ممكنة وأول مكاسبها إزالة الغصة اليسارية من حلق الشعوب العربية، وهي السبيل الوحيدة لكشف عورات الأنظمة الفاسدة المحتمية بلغو اليسار التقدمي.