معرض القاهرة للكتاب.. بين فخر الماضي وشكوى الحاضر

من أهم الفعاليات التي يترقبها القراء والناشرون والمؤلفون على حد سواء على مستوى العالم العربي والإسلامي: معرض القاهرة الدولي للكتاب، وقد كان هذا المعرض تقليدا ثقافيا ثابتا لعقود مضت، وكان حافلا بكل أوجه الثراء الثقافي، وقد كان حرص الدولة المصرية على رعايته، وكان في أحايين كثيرة يقوم الرئيس الراحل محمد حسني مبارك بافتتاحه بنفسه، في حضور وزير الثقافة، وعدد من رموز الثقافة المصرية.
سهير القلماوي ونموذج المثقف الحقيقي:
لكن نهر الثقافة والكتب في مصر جرت فيه مياه كثيرة، منذ سنوات، وفي كل عام تزداد الشكوى من المعرض، تلك الفكرة التي سعت على تنفيذها الراحلة الدكتورة سهير القلماوي -رحمها الله-، التي كانت شغوفة بالبحث والعلم، وقد حدثني عنها كثيرا أحد أنجب تلامذتها المرحوم الدكتور عبد المنعم تليمة، وكيف كان سلوكها مع تلامذتها، وشغفها بالعلم، بما يشرح لنا لماذا نعاني في بلدنا من ضحالة الثقافة، وتعرض الكتاب والكتابة لمحنة كبيرة.
فقد كانت سهير القلماوي من أوائل الفتيات اللائي تعلمن في جامعة القاهرة، ثم عينت في الجامعة، ورغم مكانتها العلمية الكبيرة، إلا أنها كانت محبة للعلم وطلبته، ورعاية كل مجال يؤدي للنهوض به، يحدثني عبد المنعم تليمة أنه طُلب منها ذات مرة من الجامعة الأمريكية في القاهرة تنظيم مؤتمر ثقافي، حول موضوع معين، وبحكم سنها ومكانتها الإدارية والعلمية، طلبت من عبد المنعم تليمة المعاونة، وقد كان وقتها معيدا بالكلية.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsماسبيرو المشكلة والحل (6).. كيف نخطو على الطريق؟
“أملي لشعب التبت”.. الدالاي لاما ومأساة الأديان في الصين
اعتقال محمود خليل.. ذعر أحمر جديد في أمريكا
وانتهى المؤتمر ونجح نجاحا كبيرا، وفوجئ القائمون على المؤتمر، عندما وضعوا لها مكافأة معينة هي أكبر مبلغ يقدم، أنها سألتهم: وماذا ستعطون عبد المنعم؟ قالوا: إنه معيد، ومن الطبيعي أن مكافأته أقل منك بكثير، فرفضت، وقالت: لو حكمت بالإنصاف فإن مكافأته تكون ضعف مكافأتي، ولكن على الأقل يتساوى معي بأن يتقاضى المبلغ نفسه، تعجبوا كيف لمن في مكانتها تطالب بمساواة معيد حديث التخرج والتعيين في مكافأتها نفسها، ولما ناقشوها هددت برفضها المكافأة إذا لم يتم مساواته بها في المبلغ، وقد كان مبلغا ضخما، وقتها، أسهم بالنصيب الأكبر في شراء عمي شقة في منطقة الدقي.
ليس الغلاء وحده سبب العزوف:
هذه الحادثة ليست بعيدة عن حديثنا عن معرض الكتاب، وشكوى الكتابة والنشر، فسهير القلماوي بهذه العقلية كان سعيها لإنشاء معرض الكتاب، بهذه الروح، وهو ما تم بالفعل، فقد بات المعرض موعدا سنويا للقارئ الذي لا يديم شراء الكتب، لعدم القدرة المادية، أو لبعد المكان، فيكون من محافظات نائية، لا تتوافر فيها المكتبات الكبرى أو فروعها، فينتظر المعرض مدخرا مبلغا يكفي لما يريد.
لكن غلاء الحياة، بكل ما فيها، لم يصرف كل الناس عن الشراء بلا شك، لكنه صرف شريحة ليست قليلة عنه، ولكن عامل الغلاء ليس وحده سر انصراف القراء عن القراءة، هناك عوامل أخرى نبتعد عنها في الحديث، لأنها تحتاج لدراسة متأنية لطبيعة الجيل الحالي وسلوكه وأجيال سبقته قليلا، وأجيال آتية، تغير نمط تفكيرها ومن ثم قراءتها.
تغير مزاج القراء وطبعهم:
هناك شريحة حالية لم يعد الكتاب المطبوع يمثل اهتماما بالنسبة لها، فكثير من القراء بات ينتظر أي كتاب مهما كانت أهميته، أن ينزل “بي دي إف” مسروقا أو مصرحا به على صفحات الإنترنت، وباتت القراءة من الأجهزة بديلا الآن عند شريحة ليست قليلة من القراء، الذين لا يزالون يمارسون القراءة والاطلاع، وهناك مواقع أصبحت تتفق مع دور نشر لإنزال كتبها على برامجها، وهذا مثّل رافدا آخر للقراءة غير الورقية.
أيضا أمزجة القراء اختلفت، ومستوى تعليم الأبناء اختلف، فقد هرولنا جميعا -للأسف- وراء تعليم أبنائنا والتركيز على اللغات، وبخاصة الإنجليزية، وباتت هناك طبيعة جديدة للقارئ، فأبناؤنا سواء أبناء الكتّاب والمثقفين والمتدينين كذلك، تعلموا بطريقة أخرى غير ما تعلمنا، وصارت لغتهم المفضلة للقراءة ليست العربية، وأعرف كثيرا من هذه الحالات، حتى صارت ظاهرة ملموسة، وشكوى مؤرقة للآباء والأمهات، بل أصبحت القراءة بالعربية عبئا ثقيلا على الأبناء إذا كانوا من ذوي الثقافة والاطلاع، ولم تعد العربية لغة قراءة عندهم، سوى في مواقع التواصل فقط، إلا من رحم ربك، وقليل ما هم.
دور مصرية وعربية ممنوعة:
لم يكن يمنع في مصر دور من المشاركة، سوى دور النشر المحسوبة على الكيان الصهيوني، لأن كل الجهات الثقافية الشعبية والرسمية اتخذت قرارا بعدم المشاركة، سواء لديهم، أو لدينا، واعتبرت ذلك تطبيعا مرفوضا، وبعض دور النشر التي كانت تسرق حقوق المؤلفين وتنشر دون إذن منهم، ولا تعطيهم حقوقهم المادية، فرفع عدد من هؤلاء دعاوى، وتم منعهم من المشاركة، وكلها دور نشر لبنانية، وكان من سعى سعيا حثيثا لذلك الأستاذ أحمد سيف الإسلام حسن البنا -رحمه الله-، حيث سطت إحدى هذه الدور على مؤلفات جده.
لكن منذ أعوام ومساحة التضييق على مشاركة دور النشر باتت واسعة، حتى شملت دور نشر مصرية، وفي هذا العام، كان المنع على الدور السورية، ولم يتمكن من المشاركة إلا من كانت لديه جنسية أخرى بجانب السورية، وقدم أوراق المشاركة بها، رغم اشتهار المعرض بعالمية الناشرين، وتلك كانت ميزة لأي معرض كتاب.
حديث الكتب في زماننا حديث ذو شجون وسجون كذلك، فهو حديث جل المثقفين قراء وكتّابا وناشرين، فهناك أزمة حقيقية تتعلق بالكتابة، سواء من حيث من يمارس الكتابة، أو من يقوم بالنشر، سواء كان الناشر مواقع إلكترونية، أو دور نشر، لكل ضلع من أضلاع النشر والكتابة أزمة تحتاج للكتابة عنها، والبحث عن حلول لها، لعلنا نطرقها في مقالات مقبلة -إن شاء الله-.