أكذوبة ترامب.. “ريفييرا الشرق الأوسط”!

أهل غزة أكدوا أنهم باقون في أرضهم ولن يغادروها رغم الدمار
غزة بعد العدوان الإسرائيلي (رويترز)

من الطبيعي أن تفجّر دعوة الرئيس الأمريكي ترامب، بطرد 2.1 مليون فلسطيني من أرضهم إلى دول أخرى في مجتمعات لتمكينه من إعادة ما سمّاه إنشاء “ريفييرا الشرق الأوسط” تحت حماية القوات الأمريكية على أرض غزة، موجة من الغضب الشعبي والرسمي عربيا ودوليا.

فقد أوجعت الصدمة شعوب العالم -حتى داخل أمريكا نفسها- من قائد نرجسي يقود العالم إلى الهاوية، برسمه صورا زائفة عن واقع لا يدرك تفاصيله، جعلت الفلسطينيين الناجين من المجازر الصهيونية التي أسقطت 47 ألفا و540 شهيدا و111 ألف مصاب، وهدمت 92% من البيوت والمنشآت، يفقدون فرحة العودة إلى منازلهم المحطمة، ويسترجعون ذكريات نكبة النزوح الأولى عام 1948، وكارثة يونيو/حزيران الرهيبة 1967.

دفعت موجات الغضب الواسعة ترامب ورجاله في البيت الأبيض إلى تعديل مشروعه بألا يرتبط بوجود قوات أمريكية بقطاع غزة، مع إقرار مبدأ “الترحيل القسري” لتفريغ القطاع من سكانه، من أجل أكذوبة “ريفييرا الشرق الأوسط” التي ترعاها أمريكا للمرة الثانية في المنطقة، بما أدخل السرور على رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو وعصابته الصهيونية المتطرفة. وجد الصهاينة في طرحه “حلا خارج الصندوق” وحلما فشلوا بفرضه بالحرب، جاهزا للتنفيذ عبر مخطط يدعمه ترامب -منذ ولايته الأولى- لضم الضفة الغربية إلى الكيان الصهيوني، بما ينهي القضية الفلسطينية برمتها.

هدية سمسار إلى مجرم حرب

يعتقد كثيرون أن حملات الشجب للأنظمة والشعوب حل مثالي، في مواجهة طموحات رئيس نرجسي، لا يتورع عن “اتخاذ قرار إجرامي بطرد شعب من أرضه لمنحها إلى مجرم مدان أمام المحكمة الجنائية الدولية في 34 اتهاما بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية”.

يأمل الثائرون أن تثني موجات الغضب ترامب عن اقتراحه الذي فاجأ الجميع بمن فيهم نتنياهو، خلال المؤتمر الصحفي الذي عقداه في البيت الأبيض الثلاثاء الماضي.

قلة من الناس تعي أن ترامب لم يكن يمزح بمشروعه الذي يبدو نظريا مجرد مشروع لمطور عقاري، سيقام على أنقاض غزة بعد إزاحة ما بأرضها من متفجرات وجثث شهداء وأنقاض. فقد أعلنت المتحدثة باسم البيت الأبيض أن فكرة إخلاء غزة من السكان لم تأت فجأة، وإنما ناقشها الرئيس قبل وصوله إلى البيت الأبيض بمدة طويلة، بينما يراها مسؤولون آخرون أطروحة لمشروع “يحتاج إلى التحاور بشأنه مع قادة المنطقة خاصة مصر والأردن، تسعى واشنطن إلى تنفيذه لمساعدة دول المنطقة على الاستقرار وإحلال السلام الشامل، وبما لا يحمّل دافعي الضرائب الأمريكيين تكاليف الحماية الطويلة الأجل التي تدفعها لإسرائيل ومصر والأردن سنويا”.

“سايكس- بيكو” جديدة

إذَن، لم تأت الصدمة من فراغ، بل من مخطط مدروس لم يكن سرّا دفينا -وإن لم يحمل مشروعا متكامل الأركان- لا يستهدف خلخلة غزة بمفردها، بل مسترجعا لخطة قديمة لإعادة هيكلة دول الشرق الأوسط والعالم بأسره.

تريد واشنطن إعادة ترسيم الحدود وفق معايير جديدة، للقفز على مخططات “سايكس- بيكو” التي وضعتها إنجلترا وفرنسا لتقسيم العالم العربي بنهاية الحرب العالمية الأولى. استولت القوتان الاستعماريتان على إرث شعب فلسطين وأعطتا أرضا لا تملكانها إلى من لا يستحق من اليهود المشردين في أنحاء العالم.

لا يرى ترامب، الذي لا يكنّ أي احترام للقانون الدولي ومؤسساته التي نشأت بإرادة أمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، غضاضة لتجاوز القواعد الاستعمارية التي أسستها واشنطن لقيادة العالم الحديث، لذلك أراد زعزعة العلاقة بين الفلسطينيين وأرضهم، وأيضا فك الارتباط بين العرب والمسلمين في قضية فلسطين والقدس، بدعوته إلى تحويل غزة إلى “مشروع اقتصادي استثماري يشمل حدائق وعقارات فارهة ومنتجعات سياحية، تبعث الأمل والهدوء والاستقرار الكامل بالمنطقة”!

حدد ترامب أهدافه من المشروع وهي: التخلص من نفقات الدعم العسكري والأمني لدول المنطقة، وإزاحة الفلسطينيين إلى “أماكن أكثر أمانا وجمالا مع منازل جديدة وحديثة”، وإقناع الدول التي ستشارك في تمويل إعادة الأعمار وإنشاء “ريفييرا الشرق الأوسط”، بقدرته على إزالة المخاوف من عودة الحرب والتدمير مرة أخرى. أقر مساعدو ترامب بأن “تمويل المشروع سيأتي من أموال دول الخليج، ليجني الجميع ثماره”!

” ريفييرا البحر الأحمر”

تسير إغراءات ترامب على المنوال ذاته الذي روجت له واشنطن من قبل، عندما أقنعت الرئيس الراحل أنور السادات بقبول عملية السلام مع إسرائيل عام 1979، كي تودّع مصر الحروب والفقر، لتبدأ عصر الانفتاح والثراء، فلم يزد السلام الصهيوني المصريين إلا فقرا.

وظف المفاوضون الأمريكيون والإسرائيليون ما تعلموه من أستاذهم وزير الخارجية الأمريكي الراحل هنري كيسنجر، سبل الفوز بتقسيم القضايا الشائكة، وزعزعة علاقة الناس بالأرض، فحولوا سيناء من قضية مركزية بعقول المنتصرين في حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 إلى نقطة هامشية ومنزوعة السلاح، بهدف تحويلها إلى منطقة سياحية عالمية.

في البداية جرى الترويج لفكرة تحويل سيناء إلى “مجمع عالمي للأديان” مع قبول مصر بتسلُّم الأرض بأي وسيلة، أراد الصهاينة التهرب من التزاماتهم بالخروج منها مرات عدة. ومع صبر المفاوض المصري، عرضوا دمج مستعمراتهم وفنادقهم، التي نزحوا عنها بصعوبة ومقابل مادي هائل في شرم الشيخ ونويبع وطابا والشيخ زويد، بمشروع سياحي يربط بين الشواطئ المصرية وإسرائيل.

بعد استكمال الخروج الصعب من سيناء، وبدء التفاوض مع الأردن على معاهدة سلام جديدة عام 1992، وسَّعت إسرائيل مشروعها بدعم أمريكي لإنشاء ما يُسمى “ريفييرا البحر الأحمر”، مستهدفة إنشاء منتجع دولي يشمل موانئ ومطارات وحدودا مفتوحة أمام حركة السياحة وتبادل المنتجات بين إسرائيل ومصر والأردن مؤملة جذب السعودية إلى الكيان، وبما يجعل من خليج العقبة وسواحل البحر الأحمر موقعا جاذبا لحركة السياحة الدولية “يساعد على نهضة اقتصادية تدمج بين مواطني تلك الدول وشركاء الأعمال، وتحقق السلام الدائم بين شعوب المنطقة”!

ترامب والغاوون العرب

تعامل مسؤولو السياحة في عهد الوزير الراحل ممدوح البلتاجي مع الدعوات بحرفية شديدة. استغلوا مشروع “الريفييرا” لوضع مزارات مصر ضمن برامج زيارة القدس وحائط المبكي التي تأتي من أوروبا وأمريكا الشمالية والجنوبية. منع البلتاجي تسرُّب أي استثمارات إسرائيلية إلى سيناء، بعد ملاحقته عددا من رجال الأعمال المصريين والعرب الذين يلهثون وراء تل أبيب لتمويل مشروعاتهم في طابا وشرم الشيخ، ورصده عدم استثمار واشنطن والمؤسسات الغربية في المشروعات العقارية أو السياحية والبنية الأساسية بالمنطقة، بينما أسهمت صناديق الإنماء الكويتية والإماراتية والسعودية واليابان في شق الترع والطرق والكباري، وإقامة محطات الكهرباء والسكك الحديدية، بالتوازي مع  استثمارات محدودة من رجال الأعمال، وإنفاق الحكومة من مدخرات المصريين بالبنوك المحلية والقطاع العام على بناء مئات المنتجعات والمشروعات.

لم يجنِ المصريون من إسرائيل إلا زيارات متكررة من الفقراء والمقامرين وهواة التعري وتجار المخدرات ومهربي السلاح. توارت “ريفييرا البحر الأحمر” مع تكرار انتفاضات الشعب الفلسطيني، والعمليات الإرهابية للجماعات المتطرفة، لتظل صناعة السياحة هشة، مرهونة بما يجري في الأراضي المحتلة والحالة الأمنية والأزمات الاقتصادية في الداخل والخارج.

يراهن ترامب على إغواء الأنظمة والنخبة الحاكمة ورجال الأعمال الذين يجمعون بين سطوة المال وسلطة اتخاذ القرار، وإقناعهم بوجاهة طرحه. لا يدرك -المفلس أخلاقيا- أن أسلحته الأمريكية شاركت في تدمير قطاع غزة، الذي يتطوع سكانه بالشهادة والعيش تحت الأنقاض، ولن يسمحوا لأحد بإزاحتهم عن أرضهم إلا شهداء، لا سيما أن السياحة والعقارات تنشط في الدول الحرة، وتظل سوقا هشة عندما تهدد حياة الناس، ولا يقام للعدالة وأصحاب الأرض وزن.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان