أيقظ أجدادنا يتنازلون عن عرقهم

“كيف تطلب ممن حال صفرة بلادهم سوادا وخضرة أن ينزلوا عنها. ما خرج بالعرق والعمر لا يترك، أيقظ أجدادنا يتنازلون عن عرقهم”
هكذا يحادث الزناتي خليفة حاكم تونس الخضراء أبو زيد الهلالي فارس فرسان الهلالية فجر معركة كبيرة. استطاع عامر الخفاجي ابن العراق أن يطعن الزناتي فجرحه، وجاء أبو زيد عارضا مداواته وعارضا عليه الاستسلام للهلالية وتركه تونس لهم.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsهل نقرأ الأدب لنحطم الخرافات العنصرية الغربية وننتصر على الاستعمار الثقافي؟!
«محمود خليل»..الاعتقال والترحيل ووقف التمويل!
لنتحدث بصراحة.. وداعا حل الدولتين
يرفض الزناتي الذي ظل يحارب الهلالية 14 عاما على أسوار تونس، يرفض العلاج والمساومة على أرضه، الفارس العجوز يحارب بسيفه حتى أخر أيامه رافضا التسليم رغم أنه يواجه جيشا كبيرا من بني هلال مدعوما بالخفاجي حاكم العراق وينادي المنادي رغم الحصار الطويل بينما يدخل أبو زيد والزناتي خليفة القصر: يا اهل تونس يهديكم الزناتي تحيته فليذهب الفلاح إلى أرضه والبائع إلى حانوته، وليقف الجند بالباب حتى يخرج ليعمر به الميدان.
الفارس لا يموت
هذا المشهد يتوسط المسرحية الشعرية (بطل الغروب) للشاعر والمسرحي المصري أحمد سراج، المسرحية تتناول الأيام الأخيرة في حياة الزناتي خليفة وكيف استطاع أبو زيد الهلالي ودياب بن غانم الزغبي خداع الفارس العجوز في ميدان المعركة وإصابته وتسميمه حتى يرضخ لهم و يسلم عرش تونس إليهم، ولم يكن خداع المعركة فقط هو سبيلهم في ذلك فقد اشتروا العلام رجل الزناتي الثاني في مملكته وكان جاسوسا لهم بوعده بسلطنة تونس بعد استسلام الفارس الشجاع أو قتله في المعركة، ويدرك الزناتي ذلك “لو فرطت في شبر من أرضك فلن تسترد شرفك أبدا لن تسترد روحك” هكذا يواجه العلام مشيرا إلى خيانته.
العمل المسرحي بطل الغروب نص مكتوب بلغة تقترب من الشعر الذي يجيده الكاتب أحمد سراج ضمن عدة أعمال مسرحية كان أولها (تحت الحصار) العمل الذي حاز على جائزة أحمد تيمور للعمل الأول عام 2005، وهذا العمل الشعري كان أول معرفتي به، فقد التقينا في حفل توزيع الجائزة التي فار بها النص، وكان تعبيري عنه “أن مصر دائما تنجب المبدعين”.
كان أحمد شابا لم يتجاوز الثلاثين وكان يكتب شعر الفصحى، وتوالت أعماله المسرحية فكتب القرار، وفصول السنة الأربعة عن أحداث ثورة يناير في 2012، التي سبقها ديوانه الشعري الحكم للميدان الذي يتناول أيام الثورة وأحداثها، ثم قدم مسرحية القلعة والعصفور التي ترجمت للإنجليزية وأيضا تم تقديمها على أحد المسارح في الولايات المتحدة الأمريكية في مهرجان صوت العالم بشيكاغو، ولعلاقتي التي ظلت منذ تعارفنا الأول كانت فرحته عارمة بهذا العرض رغم مرارة عدم تقديمه على مسارح مصر وقد حاول أحمد كثيرا من أجل تحقيق ذلك!
يبدأ عرض بطل الغروب بمشهد النهاية وهو تنازل الزناتي الفارس العجوز عن عرش تونس في وجود العلام وسعدى ابنته، وابن أخيه مطاوع، وفي وجود الهلالية: أبو زيد، السلطان حسن، القاضي بدير، والجازية، ويعرض العلام والقاضي عليه أن يوقع وثيقة التنازل، يحاول الزناتي التملص من العار الذي سيلاحقه مدى التاريخ باللجوء إلى الشعب ليعرض عليه إما الاستمرار في الحرب أو الاستسلام، وفي ظل الحصار المفروض عليه من الهلالية والعلام الرجل الثاني في مملكته ينزل الزناتي مكسورا جريحا دون أن يوقع التنازل، وسط أعجاب وحزن الجميع خاصة أبو زيد الذي يدرك معنى انكسار الفارس، ويعرف أن الرجل حارب لآخر نفس في حياته ولم يسقط سوى بالخداع والخيانة على أرض المعركة.
لماذا تونس؟
تبدأ المشاهد التالية في النص المسرحي بطل الغروب لأحمد سراج لتفصل كيف تمت إصابة الزناتي ووصوله إلى مرحلة التنازل، فقد خدع القاضي بدير والجازية عامر الخفاجي بطل العراق في قرعة النزال مع الزناتي للتخلص منه، وفي أرض المعركة يدور الحوار بين الزناتي وعامر “لماذا جئت إلى هنا وأنت ابن الطين؟ الطين لا يحارب الطين” فيجيبه عامر “استجاروا بي فأجرتهم” فيقول الزناتي ” بل جئت وراء حبك للجازية، وأن كانوا يبحثون عن الكلأ والطعام فلماذا تركوا العراق، والشام، ومصر حتى وصلوا إلى تونس، ألم يجدوا في كل هذه الأراضي الخصوبة والطعام الذي يبحثون عنه؟”
لم يرد الزناتي محاربة عامر وهم أبناء الأرض الخصبة والطين، ووجد عامر فيه رائحة أبيه ولكنها الحرب، يستغل عامر لين الزناتي نحوه ويطعنه مسببا جرحا له، ويحين الغروب وينفض القتال، ولكن سعدى ومطاوع يخدعون عامر في اليوم الثاني للقتال، ويطعنونه برمح مع الغروب ويجهز الزناتي عليه، وهذا كان العامل الرئيسي في انهزامه فهذا لا يليق بالفارس الذي استمر على جواده حتى العام المئة.
استمر أحمد سراج في تقديم أعماله المسرحية والنقدية والمشاركات الصحفية والأدبية طوال عشرين عاما فكانت أعماله الأخيرة منها نصوص الأرض، ثم بطل الغروب نصنا هذا، وبعدهما قدم لمسة البعث، وزاد، وهما النصان الأخيران له وفيهما يتجلى الشاعر والمسرحي، ثم قدم كتابا نقديا بعنوان أدب المصريين، وقد ترجمت مسرحيته لمسة البعث مؤخرا إلى اليونانية وتناولت أحداثها عصر ملوك الطوائف وتدور أحداث المسرحية حول عودة ابن زيدون بمكيدة من أحد أعدائه إلى مدينته قرطبة التي فر منها إلى إشبيلية منذ أكثر من خمسة وثلاثين عامًّا، وقد صار شيخًا فانيًا.
أرضي
” أربعة عشر عاما أقف فارسا أدعوهم لمنازلتي أعلق رؤوسهم على أسوار الخضراء أول من يعمر الميدان، أمر على بيوت الشهداء واحدا واحدا الآن أحبط عملي” هكذا يصف الزناتي خليفة مقاومته لحصار بني هلال وكيف كان يواجههم وخزيه من الخدعة التي قتلت ابن العراق عامر الخفاجي، لم يجد في مقتله نصرا يضاف إلى سجله الطويل في القتال والمنازلة من أجل وطنه، يرى أن خيانة عامر في القتال تساوي خيانة العلام له.
بنفس الطريقة يدبر أبو زيد الهلالي مع دياب بن غانم محاولة قتله فقد اصابه دياب بعد انتهاء المنازلة، وأجهز على قوته أبو زيد بالسم بعد اصابته برمح دياب في حدقة عينه، ويظل المشهد بين دياب والزناتي ومحاورته عن سبب تركه أهله ومجيئه إلى تونس وراء الهلالية برواية أحمد سراج مشهدا تاريخيا لمن يدفعون العمر دفاعا عن أوطانهم، فقد كان للزناتي أن يمنح الهلالية جزءا من أرض تونس ليبقى على عرضه، ولكن “أرضي أيها الفلاح.. هل هي ملك للحاكمين؟ هو عقد بيننا وبين أهلنا يزرعون ويصنعون ويبنون ونحن نحفظ حدودهم وندفع عن نسائهم”.
هو يحمي الحدود ضد الذين يريدون استعمارها والسيطرة عليها، ويظل يقاتل حتى أخر أنفاسه دفاعا عن الفلاحين والصناع والأطفال والنساء. ربع القرن من الزمان وأحمد سراح الشاعر والكاتب المسرحي والصحفي يتناول أحداثا تاريخية يحكي تاريخ هذه الأمة وينتقل من القديم إلى الحديث ناقدا أدبيا ومعلما لا يتنازل عن رسالة قلمه ولا يطمع في وظيفة أخرى، يحاول أن يكون نفسه الحالمة المبدعة، فهل يجوز لمثل هذا الحلم أن يحبس لمجرد أنه يدرك رسالة القلم؟