هل يتوقع الأدباء الثورات؟ ولماذا يجب أن يقرأ السياسيون الأدب؟

الاحتفال السنوي بيوم الباستيل في فرنسا (رويترز)

هل يكتشف الأدباء مقدمات الثورات عندما يقرأون في الواقع مأساة الشعوب، ومشاعر الناس وأحزانهم ومعاناتهم من الظلم؟! ولذلك يجب أن يقرأ القادة الأدب، لتطوير قدراتهم علي صنع قراراتهم في الوقت المناسب قبل أن ينفجر الغضب.

والأدب من أهم مصادر قوة الدولة؛ إذ يسهم في اكتشاف ما لا يستطيع العلماء والسياسيون أن يتوقعوه، ولذلك يجب أن نبني جسورا بين الأدب والعلم والسياسة والتاريخ، فبذور الثورات يمكن أن تكون كامنة في نفوس تشتاق إلى الحرية، وتتطلع إلى العدل سنوات طويلة دون أن تتمكن من التعبير، ولذلك يكتشف الأدباء مقدمات الثورات عندما يعبّرون عن مشاعر الناس.

وأنا أعمل لتطوير علم الرأي العام حاولت اكتشاف أساليب جديدة لقياس اتجاهات الجماهير، فهناك حالة خوف عام تمنع الناس من التعبير، وكان من تلك الأساليب قراءة الأدب، فعندما يطلق الأديب لخياله العنان فإنه يمكن أن يكتشف السخط الذي قد ينفجر في وجوه الحكام الذين يعتقدون أن شعوبهم تهيم بهم حبّا.

الثورات لا تشتعل فجأة!

إن الثورات تنطلق عندما يتراكم الغضب، ويفقد الناس الأمل في الإصلاح، ويصيب الحكام غرور القوة، ويمكن أن نجد دليلا على ذلك في قصص أديب الثورة الفرنسية ألكسندر دوماس الكبير (1802-1870) خاصة رواية “سقوط الباستيل” أو الثورة الحمراء؛ إذ يقول: إن الجماهير تنتابها قبيل الحوادث الجسام أمراض مثل الحمّى، تجعلها غير مستقرة على حال، تتلمس وجهة تحسها في أعماقها، ولكنها لا تدري على وجه التحديد ما هي هذه الوجهة!

الكلمات تصنع الثورات

وكانت قد شاعت في الناس قبل الثورة الفرنسية كلمات جديدة، توضح أن وعيا جديدا نشأ بين الناس، وكان من أهم الكلمات التي انتشرت في ذلك العهد “الحرية والاستقلال والمساواة”.

لذلك عندما بدأ بيتو يقرأ كتاب جيلبير على الفلاحين، كان الناس يصغون إليه بانتباه شديد، على قلة محصولهم من الفهم، بيد أن كثرة تكرار “الحرية والاستقلال والمساواة” كانت بمنزلة انبثاقات من النور في ظلام الجهل الدامس.

ولا يمكن أن تفلح السلطات مهما كانت قسوتها وبطشها في منع النور المنبعث من الكلمات من الانتشار، فقد تمكَّن بيتو من الهرب والذهاب إلى باريس، بعد أن ألقت السلطة القبض عليه بسبب قراءته كتاب جيلبير المطبوع في أمريكا عام 1788 للفلاحين، إذ حرَّم الرقيب تداول هذا الكتاب، لكنه مع ذلك انتشر، وعجزت السلطة أمام قوة الكلمات.

الثورة كالحريق.. كيف؟!

تنبَّه دوماس إلى حقيقة مهمة، هي أن جذوة الحرية كالحريق، إذا اتقدت في مكان لم تنحصر فيه وإلا خمدت، والدول تعلم ذلك!

هل يقصد دوماس ما نطلق عليه الآن عدوى الثورات، وتأثيرها في الشعوب التي يثير بصيرتها نجاح الثورة في دولة معيَّنة؟ فتنطلق لانتزاع حريتها، وتبتكر وسائل جديدة لا يتوقعها الطغاة، وأن انهيار نظام طاغوتي في دولة مقدّمة لسقوط الأنظمة الاستبدادية، وأن شرارة الحرية عندما تنطلق من دولة يمكن أن تشعل حريقا في العالم كله، لكن الأنظمة الاستبدادية تواجه تلك الشرارة باستخدام قوتها الغاشمة لإخمادها دون أن تدرك أن استخدام القوة يزيدها اشتعالا وانتشارا، وأن الشعوب الساخطة علي الظلم لن يستطيع الجنود أن يقفوا في وجهها، وسيلقون أسلحتهم ويهربون، فتستخدم الجماهير الثائرة هذه الأسلحة .

التحذير من الثورة المضادة

يحذر دوماس الثوار من خطر الثورة المضادة التي تشعلها الدول المجاورة لتمنع انتقال عدوى الثورة، إذ يتوقع جيلبير أن تنفق بريطانيا الأموال الطائلة في فرنسا لوضع بذور الخلاف، وتوجيه الثورة إلى الأعمال الدموية التي تدنسها، وتنفر القلوب الكريمة منها.

ماذا يعني ذلك؟ أن الأدب يمكن أن يحذر الشعوب من الخطر، ويوجهها للمحافظة على ثوراتها، فجمال الثورات يكمن في أن هدفها تحقيق العدل، ولذلك تعمل الأنظمة الاستبدادية لتشويهها بدفعها إلى ارتكاب أعمال يرفضها الضمير الإنساني، بهدف تنفير الشعوب الأخرى من الثورة وإثارة خوفها، فتستسلم للظلم من أجل المحافظة على الأمن والاستقرار.

هل العلماء أعداء الشعب؟!

يصور دوماس حوارا مهمّا بين مندوب الشعب وحاكم سجن الباستيل (أشهر السجون في التاريخ)، يمكن أن يكشف طبيعة تفكير السلطات؛ إذ يقول الحاكم “ماذا فعل الباستيل بالشعب حتى يكرهه؟ لو عقل الشعب لبارك كل حجر في الباستيل، فمن الذين يضمهم الباستيل؟! إنهم الفلاسفة والعلماء والقادة والوجهاء والوزراء والأمراء، يعني أعداء الشعب”!

وطبقا للتفكير السلطوي الاستبدادي، يبدو حاكم السجن الكبير مقتنعا بما يقوله، فالسلطات ترى أن العلماء والقادة هم أعداء الشعب، ولذلك تسجنهم لتحمي الشعب من تأثير كلماتهم، وأهمها الحرية والعدل.

لذلك تصبح السجون هي مكان العلماء في الدول الاستبدادية، وتظن السلطات بذلك أنها تحمي الاستقرار ومستقبل الشعب.

عدم الاستماع لصوت العلم

عندما قرر الملك أن يستمع لصوت العلم، وأن يحترم إرادة شعبه، كان الوقت متأخرا جدّا، فانفجر الغضب، واشتعلت النيران في الريف والمدن، وتخلى عن الملك جنوده الذين كان يحتمي بهم ويتباهى بقوتهم، وأدرك الملك أخيرا أن سبب هلاكه كان غرور الملكة التي لا ترى سوى أبهة الملك وسطوة الجنود.

كان العلماء على حق، وكانوا يتطلعون إلى حماية الدولة والمحافظة عليها، لكن السلطات لا تسمع سوى أصوات المنافقين الذين يستغلون الحكام لنهب ثروات الشعوب، ويهربون عندما ينفجر غضبها.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان