الشيخ محمد الغزالي.. عالم عاش واقع أمته

الشيخ الغزالي (منصات التواصل)

كنت كلما قرأت في كتب الشيخ محمد الغزالي التي تربو على الخمسين كتابا، أو أطالع مقالا من بين مقالاته الكثيرة التي يعالج فيها الوقائع والأحداث، أجدني أمام نسيج فكري متفرد لعالم رباني وعى دوره في هذه الحياة، وحرص على أن يسهم في يقظة أمته لتنهض من كبوتها، فتجاوز تأثيره حياته ليظل حيا مؤثرا بعد مماته.

الشيخ محمد الغزالي صاحب مشروع فكري قدمه للأمة الإسلامية من خلال كتبه ومقالاته التي اشتبكت مع الواقع، فشخّص أمراض الأمة ووضع يده على مواطن الداء، وأفاض في بيان الدواء.

كثيرا ما تستدعي الأحداث النظر فيما كتبه الشيخ محمد الغزالي (1917- 1996)، فرغم مرور سنوات على وفاته إلا أن ما كتبه -رحمه الله- جعله كأنه يعيش بيننا الآن.

وفي ظل الواقع الذي يتألم له كل حر مهموم بقضايا أمته، تبدو الحاجة أشد ما تكون إلى علماء من أمثال الشيخ محمد الغزالي، يعيشون واقع الأمة ويشتبكون معه، ولا يخافون في الحق لومة لائم، مصححين للأمة بوصلتها لتنهض من عثراتها.

لقد كان من حظ جيلنا أن عاصر في مراحل تكوينه الفكري الشيخ محمد الغزالي ومعه كوكبة من علماء ربانيين قلما يجود الزمان بمثلهم، وكانوا مثالا يُحتذى به لكل من أراد يسلك نفس طريقهم.

عرفت الشيخ محمد الغزالي من خلال كتبه وخطبه ومحاضراته ومناظراته، فلمست فيه -رحمه الله- جمال النفس، فقد كان من هؤلاء الذين نمت في نفوسهم زهرة الجمال وتكاثرت فروعها وتمددت حتى توارى كل خبيث حولها.

مثابرة ومكانة عالية

لقد قدر الله للشيخ الغزالي أن يكون في عصر عاشت فيه الأمة فصاما بين العلوم الشرعية والعلوم المدنية، وقليلون من تجاوزوا ذلك، وكان الشيخ الغزالي من السابقين إلى تجاوز هذا الفصام، فجمع بمثابرته بين مختلف الآداب والفنون والعلوم.

وهنا أنقل نصا ما ذكره الشيخ الغزالي عن نفسه، إذ يقول -رحمه الله-: “إن أكثر ما اعتمدت عليه في دعوتي إلى الله تعالى التأمل الذاتي في القرآن الكريم والسُّنة المطهرة، ولا يمنع هذا من أن أضم إلى ما أستفيد من تغلغل البصيرة في كتاب الله تعالى، أن أضم إلى هذا جزءًا من القراءات الكثيرة، بدأت بها حياتي، كنت أقرأ كل شيء، الهزل والجد، وأضع هذا في مستودع في العقل الباطن، وبعد ذلك لا أدري كيف تتجيشه القراءات أو الحوادث فتخرج، وبعد هذا أوثقه من الكتب التي أعتقد أني قرأت فيها”، انتهى كلامه.

ويستوقفني ما قاله الشيخ الغزالي في كتابه “كيف نفهم الإسلام؟”، إذ يقول: “لماذا كنت مسلما عن تقليد، ثم أصبحت مسلما عن اقتناع. اقتناع يقوم على البحث والموازنة والتأمل والمقارنة وكل يوم يمر لي يزيدني حبا للإسلام، واحتراما لتعاليمه، وثقة في صلاحيته للعالمين وجدارته بالبقاء أبد الآبدين”، انتهى الاقتباس.

ولقد تبوأ الشيخ الغزالي بمثابرته مكانة عالية، فكان من أعظم خطباء عصره، وفارسا من فرسان الكلمة، جمع القلوب من حوله بأسلوبه الذي لا يبارى، غيورا على حرمات الله، وحارسا وهب نفسه دفاعا عن الأمة ومقدساتها.

فهم لواقع الأمة

إن أفضل ما قدمه الشيخ الغزالي فهمه لواقع الأمة وأمراضها، فقد كان من العلماء المخلصين الذين انجزوا فرضا من الفروض الحضارية التي تقي من الإصابة، وتمنح الهداية والفقه والتبيين، وذلك بالنفرة للجهاد الكبير، والاشتباك مع الواقع الذي تعيشه الأمة للتعرف إلى كل مكوناته، ومحاولة تحليله، وتلمس عوامل نشوئه، وبيان أسباب علله وأمراضه ونهوضه، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}.

لقد كان الشيخ الغزالي طبيبا ماهرا في تشخيص أدواء الأمة النفسية والعضوية، ولم يكن من هؤلاء الذين استغرقتهم المتون والنصوص وحصروا أنفسهم في بطون الكتب والمجلدات واعتزلوا واقع الأمة، إما إيثار للسلامة أو طمعا في مكانة عند سلطان، فلم يتجاوز أثرهم حدود حلقات العلم، وأصبحوا في طي النسيان.

لقد عاشت الأمة في القرون الأخيرة مرحلة أصدق ما ينطبق على حالها ما قاله الطغرائي في لامية العجم:

تقدمتني أناس كان شأوهم وراء خطوي لو أمشي على مهل!

واشتباكا مع واقع الأمة، قدّم الشيخ الغزالي رؤية ووجهة نظر سعيا للإصلاح وتسديد الأخطاء، جامعا بين طرفي معادلة لا تتحقق النتيجة دونهما، وهما: الإخلاص والفهم للسنن الكونية.

ولقد أحسن الشيخ الغزالي فهم السنن الكونية التي شرعها الله وبها تُحكم الدنيا، فانسلخ من عقلية التبرير والتسويغ، وسلك منهج الدراسة لمواطن الخلل، ووضع يده على مواطن التقصير وأسبابها، فكانت أعماله نقدا تقويميا لواقع الأمة، في وقت وصفه -رحمه الله- بأنه وقت تبدو فيها الأمة أشد حماسة لأسباب الضعف من حماسة أعدائها لأسباب القوة.

حياة مليئة بالمعارك الفكرية

لقد كانت حياة الشيخ الغزالي مليئة بالمعارك الفكرية، فقد خاض معارك دفاعا عن الإسلام في جبهات شتى، يصد سهام الأعداء من كل حدب وصوب.

ومن كلماته النورانية المعبرة، قوله “إن الإسلام قلب تقي وعقل ذكي، وإن تحديات الدعوة الإسلامية تجيء -قبل أي زحف خارجي- من داخل أرض الإسلام، على أن التحدي الأعظم للإسلام كله هو في يقظة كل القوى المعادية له، وتلبيتها النية على اغتياله”.  كلمات تعبّر عن فهم عميق لرسالته ومهمته التي عاش من أجلها ومات مستعصما بها.

لقد تعرض الشيخ الغزالي على مدار حياته لمحن وهجوم عليه شأنه شأن أصحاب الرسالات.

وبعد صدور كتابه “السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث”، تعرض الشيخ الغزالي لهجوم من خصومه، حتى أنهم كتبوا أربعة عشر كتابا في الرد عليه، ومنهم من غلا في حق الشيخ بغير وجه حق، وكان الشيخ بطبعه معرضا عن الخصومات، متمترسا بحسن خلقه وجميل طبعه.

ولقد دارت عجلة الزمن، ورجع خصوم الشيخ عما تعرضوا له به، ووجدوا طوق النجاة في مشروعه الفكري، لمواجهة الانحرافات الفكرية التي ألمت ببلاد المسلمين.

ومما كان لافتا للنظر بالنسبة لي، ذلك النقد الذي وجهه الشيخ المحدث الألباني عندما سئل عن الشيخ الغزالي، فكان من بين رده أن قال “إنه منحرف عن السنة، وهو على طريقة المعتزلة”!

ولست هنا في معرض تناول نقد الألباني أو تفنيده، فكل يؤخذ منه ويرد، وكلا الشيخين -الغزالي والألباني- أثرهما يتحدث عنهما، وكل منهما خدم الإسلام في مجال علا كعبه فيه وأجاد عن الآخر، ونقد المحدث الألباني لا ينقص قدر الغزالي العالم المجدد، ولا يقدح في منزلة العلامة المحدث.

لقد عاش الشيخ الغزالي واقع أمته، واشتبك معه مجاهرا بالحق وخاض معارك ضد كل ما يمس دين الأمة وعقيدتها، بينما توارى كثير من العلماء في وقت ما كان يجب لأمثالهم أن يتواروا فيه، وكان مثلهم كمثل من فر من الزحف عند ملاقاة العدو.

إن واجب الوقت يتطلب إعادة تقديم كتب الشيخ المجدد محمد الغزالي، لتتعرف الأجيال إلى عالم عاش واقع أمته، ومجدد مارس الدعوة بأسلوب جراح ماهر يزيل الأورام الخبيثة، وطبيب قلوب يعرف ما يصلحها.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان