أبو تريكة.. واحد من الناس

هو “الماجيكو” اشتقاقًا من اللغة الإنجليزية، ومعناها الخارق للطبيعة أو الساحر، وقد كان بحقٍّ ساحرًا من سحرة “الساحرة المستديرة”، وهو “القديس” لما يتحلَّى به من لين الطباع ودماثة الأخلاق، وهو “صانع السعادة” لأنه كلمة السر في معظم الألقاب القارية لمنتخب مصر، ومعظم ألقاب النادي الأهلي قبل اعتزاله، وهو لذلك كله “أمير القلوب” ذو الشعبية الطاغية، وهو اللقب الذي استحال “إرهابي القلوب” وشاع شعبيًّا على نطاق واسع، بعد إدراجه على قوائم الإرهاب.
في تمعن لقب “إرهابي القلوب” بكل ما يوحي به من استخفاف، تأكيد دامغ على أن الوجدان الجمعي المصري، وكعادته يعبر عن رفضه لما لا يستسيغه عقله وضميره، عبر السخرية الرشيقة والعبارة الموجزة اللماحة.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsسوريا من النافذة التونسية.. سلموا السلطة لغيركم!
سوريا.. وصفة لإفشال الثورات وللحرب الأهلية
ورحل أبو إسحاق الحويني
عشرات الملايين من محبي محمد أبو تريكة، لم يبتلعوا الاتهام الذي استنفر الإعلاميين المقربين من النظام، ممن يتلقون التعليمات عبر رسائل الهواتف المحمولة، فيهاجمون هذا ويمتدحون ذاك، “حسب الأحوال بالأمر”.
لم تسفر حملات التشويه التي استعرت عن انتقاص محبة “إرهابي القلوب” مثقال ذرة في نفوس محبيه، ولم تؤدِّ محاولات شيطنته إلى هدم قيمته المعنوية في وجدان المصريين.
المتطرفون في كراهيته يكادون يتميزون من الغيظ، كلما ظهر في مناسبة رياضية، فيستحوذ على الأضواء، ويغدو نجم نجومها، على غرار ما حدث أثناء افتتاح كأس العالم في العاصمة القطرية الدوحة.
ظاهرة استثنائية في الملاعب العربية
إنه نجم اللقطة وبطل المشهد الذي يتوارى إلى جانبه رياضيون عالميون، بعضهم لا يزال يحقق الإنجازات داخل المستطيل الأخضر، في ظاهرة استثنائية لم يحظ بها من نجوم الرياضة المصريين من قبله ولا من بعده، سوى محمود الخطيب رئيس النادي الأهلي الحالي، وصاحب الكاريزما الأخاذة.
مع ظهوره في إعلان النادي الأهلي بمناسبة تدشينه ملعبه الجديد، اصطف كارهوه في خندق الخصومة الفاحشة، فإذا بهم يرددون الخرافات بأنه إرهابي يقطر دم المصريين الأبرياء من بين أصابعه، على الرغم من أن هذا الإفك ليس له أي سند من القانون.
الوضع القانوني لمحمد أبو تريكة، كما أوضح المحامي الحقوقي خالد المصري، على صفحته على فيسبوك، يتلخص في أنه ليس مطلوبًا على ذمة أية قضية ذات صلة بالإرهاب، وكل ما في الأمر أن “اسمه مدرج على قوائم الإرهاب لكونه ورد في تحقيقات الأمن الوطني”، كما أنه والكلام ما زال للمصري “لم يُحقق معه أمام أي نيابة في مصر سواء بشخصه أو عن طريق وكيله”.
هذا كلام باتّ قاطع، يُطهِّر ساحة محمد أبو تريكة من الاتهامات المرسلة، كما يتطهر الثوب الأبيض من الدنس، وأغلب الظن أن خصومه ممن يبعثرون الأكاذيب ذات اليمين وذات الشمال، يعلمون ذلك علم اليقين، لكن نفوسهم سولت لهم أمرًا.
لماذا يكرهون الرجل الذي لم يضبط مرةً يدافع عن نفسه أو يرد إلى مبغضيه الإساءة؟
تقول الحكاية المأثورة إن الثعلب حين لم يستطع الوصول إلى عنقود عنب، مضى يردد أنه حامض.
تلك حيلة نفسية يلوذ بها الكثيرون ممن يشعرون بالعجز والتخاذل، وتُسمى في مجال الدراسات السيكولوجية بالإنكار والانعطاف بمعنى توجيه النقاش إلى موضوع آخر.
كارهو “إرهابي القلوب” ممن صبوا عليه الاتهامات صبًّا، يقفون إزاءه متصاغرين إذ لا يقدرون على ما يقدر عليه، فإذا بهم ينزعون عنه كل الفضائل، ويلصقون به الاتهامات الباطلة.
المسألة أبعد من كرة القدم بالطبع، فصانع الألعاب الفذ قد اعتزل منذ نحو عقد من الزمان، لكنها تتعلق بأنه يقول دائمًا ما يعتقد أنه الحق، وهذا ما لا يعرفونه وليست بينهم وبينه أدنى صلة.
قد لا تتفق مع أفكار محمد أبو تريكة، لكن الإنصاف يلزمك بأن تعترف بأنه لا يحسب حسابات الربح والخسارة، حين يرتأي أن عليه أن يعلن موقفًا، أو يفصح عن رأي.
يقول في تأويل ذلك: إن النجومية رزق من الله، وعلى الإنسان أن يستغلها لخدمة قضايا أمته العادلة.
مواقف “إرهابي القلوب” من القضية الفلسطينية
مع العدوان الإسرائيلي الغاشم على قطاع غزة، لم يمسك “إرهابي القلوب” لسانه، مضى يشيد بالمقاومة، ويعرب عن دعمه الكامل لحق الشعب الفلسطيني في الكفاح ضد الاستعمار الإسرائيلي.
لم يكن ذلك موقفًا منبت الصلة عن حقيقة الرجل، فقد فعلها حين كان لاعبًا، إذ رفع قميص المنتخب عن قميص آخر، مكتوب عليه بالعربية والإنجليزية “تعاطفًا مع غزة”.
حدث ذلك أثناء دورة الألعاب الإفريقية في غانا عام 2008 بعد تسجيله هدفًا في مرمى السودان، فهرع الحكم إلى إشهار البطاقة الصفراء في وجهه، وسارع الاتحاد الإفريقي إلى توقيع غرامة مالية عليه، بذريعة أنه يخلط الرياضة بالسياسة.
سدد الغرامة راضيًا مرضيًّا، من دون أن ينبس ببنت شفة، وارتفعت أسهمه في الشارع العربي، حتى إن الغزيين رفعوا صوره في مسيرات حب عارمة، لم يحظ بها زعيم عربي بعد عبد الناصر.
كان كشفه عن عبارة “تعاطفًا مع غزة”، يكشف بالتوازي عن أن سياسة الكيل بمكيالين ليست تقتصر على أروقة الأمم المتحدة، ونحوها من المنظمات الدولية، بخاصة حين غض الاتحاد الإفريقي ذاته في البطولة ذاتها الطرف عن الغاني جون بانتسيل، حين رفع علم دولة الاحتلال.
هذا التصرف العفوي كشف عن “البطحة” على رأس الاتحاد الإفريقي، كما تكشف تصريحاته بتأييد المقاومة اليوم، عن “البطحات” على رأس النظام السياسي العربي، الذي تغيّب عدد من قادته عن حضور قمة القاهرة لمناقشة تهديدات ترامب.
مواقف محمد أبو تريكة إذن لا ترضي الحاكمين بأمرهم، وطبيعي ألا ترضي “الأذرع الإعلامية”، لكنها رغم أنوفهم تقع موقعًا حسنًا في نفوس شعوب مقطوعة اللسان، وممنوعة من الكلام.
بقاء محمد أبو تريكة في دائرة الضوء رغم اعتزاله ليس لكونه محللًا رياضيًّا فذًّا، بل إن هناك كثيرين أعمق منه غورًا وأوسع باعًا، لكن لأنه ينتمي إلى الشارع العربي، ويعبر عنه عفويًّا ببساطة الفلاح المصري الطيب، الذي لا يحسب الحسابات حين يقول للغولة: عيناك حمراوانِ.
لن يكفّ كارهو “إرهابي القلوب” عن إبداء البغضاء له، وما تخفي قلوبهم أكبر، ولن يكفّ هو عن كشف البطحات على رؤوسهم، ولن يكفّ محبوه عن السخرية من الادعاءات الكاذبة بحقه، لأنه ببساطة شديدة اختار أن يكون “واحدًا من الناس”.