“معاوية”.. جدل الشخصية وتعدد أوجه التاريخ!

أتابع مسلسل “معاوية”، وهو إنتاج ضخم لشبكة “إم بي سي” الإعلامية، بتكلفة مئة مليون دولار.

العمل أُنتج في 2023، ولم يُبث في نفس العام، وقيل إنه ثار جدل بشأنه: هل يُعرض أم لا؟ ذلك أن معاوية بن أبي سفيان (608 -682م) من أكثر شخصيات التاريخ الإسلامي إثارة للجدل، وهناك خلاف حوله بين السنة والشيعة، وخلاف داخل البيت السني نفسه.

الشيعة لهم موقف منه بسبب الصراع السياسي والعسكري بينه وبين الخليفة الرابع علي بن أبي طالب.

كما أنه حارب الحسن بن علي، خليفة المسلمين مدة 6 أشهر بعد مقتل والده، ثم تنازل الحسن عن الحكم حفظًا للدماء (41هـ)، وهى نبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله سيجعله سببًا في حقن دماء المسلمين التي ظلت تسيل منذ مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، ولم تتوقف إلا بهذا الصلح، لكن معاوية نقض الاتفاق مع الحسن حيث انتزع ولاية العهد لابنه “يزيد” ليكون الخليفة من بعده، بينما كان الحسن هو الأحق بالخلافة، أو شقيقه الحسين.

في البيت السني فإن مكانة معاوية مُقَدّرة، فهو كاتب الوحي، وصهر الرسول، وخال المؤمنين؛ أخته رملة (أم حبيبة) زوجة الرسول، وأم المؤمنين.

وفي عهد معاوية اتسعت دولة المسلمين بعد فتح ممالك وإمارات عديدة وبعيدة، وحقق حلمه بتأسيس أسطول بحري، وبواسطته اقتحم المسلمون البحار، ونافسوا الدول الأخرى، ووصلوا إلى مناطق كان يصعب عليهم بلوغها بجيوشهم عبر البر.

قبل عرض المسلسل كنت أتصور أن حيز التبجيل لمعاوية كبير جدًّا بين السنة، لكن مع توالي الحلقات بدأ يتضح من كتابات وأحاديث كثيرة وجود معارضة واسعة له، هناك من يضعه في مصاف كبار الصحابة، وهناك من يصنفه في خانة أخرى.

وهذه مشكلة في التاريخ، إذ ليس له وجه واحد، إنما وجوه متعددة، وروايات متعارضة، لهذا ليس هناك اطمئنان لسردية واحدة فيه حيث تزاحمها سردية أخرى تناقضها، وبالتالي فإن أي عمل فني له أصل تاريخي لن يحوز رضًا جماعيًّا ولا شبه جماعي، سيكون مصيره الجدل مثلما هو حاصل اليوم مع “معاوية”.

الملك العضوض

هناك مفكرون من السنة ينتقدون معاوية لأنه قلب نظام الحكم في الدولة الإسلامية الوليدة من الشورى إلى التوريث، ويسمونه الملك العضوض، ويعتبرون أن بسببه لم يحدث التطور السياسي للأمة، وأن من حكموا طوال التاريخ لم يكونوا كلهم الأصلح، وأن المسلمين حُرموا من حكام عدول لغياب الشورى، وهي صورة للديمقراطية، وفق مفهوم زمانها وظرفها، كما تجلت في سقيفة بني ساعدة باختيار أبا بكر الصديق ليكون أول خليفة للمسلمين، ثم توالت أشكال من هذه الديمقراطية في اختيار الحكام التالين له، ثم انقطع حبل الشورى بفرض معاوية لابنه يزيد حاكمًا بعده بإغراء المال أو بتهديد السيف.

والسؤال: هل بسبب هذا التراث الطويل من الملك العضوض لا تعرف غالبية بلدان المسلمين الديمقراطية والاحتكام للإرادة الشعبية حتى اليوم؟

وهل لأننا نخضع للحكم المطلق منذ القدم فإن بلادنا ليست مستعدة للتغيير، أم أن الإصلاح لا يزال بعيدًا عنا؟

وهل لذلك ينتكس أمل التغيير، كلما لاح في الأفق، كما جرى في تجربة الربيع العربي؟

ربما هذا كله صحيح، وربما تُضاف أسباب أخرى تتعلق باحتلال بلدان المسلمين من قوى أجنبية أدخلتها في نفق الجهل والتخلف والفقر والفساد والانفصال عن الحداثة، وعندما رحل المحتل، وجاء الحكم الوطني لم يتم اعتماد نهج الديمقراطية الحديثة، إنما جرى استعادة وتكريس حكم السلطوية المستبدة الممتدة عبر الزمن.

صورة مثالية

يصعب الحكم النهائي على المسلسل الآن، لكن ما لا تخطئه العين أنه منذ الحلقة الأولى يقدم معاوية في صورة مثالية، أو شبه مثالية، ولا مشكلة في ذلك إذا كانت هذه هي حقيقة الحاكم الذي قضى 40 عامًا في السلطة؛ واليًا على دمشق ثم الشام (21 – 41هـ)، ثم خليفة للمسلمين (41 – 60هـ).

لكن السؤال: كيف استطاع معاوية الحفاظ على السلطة وتوسيعها لحكم الدولة الإسلامية كلها مدة 40 عامًا دون اهتزاز كرسيه بينما لم يستطع أحد من مناوئيه البقاء في الحكم مثله أو انتزاع الحكم منه؟

المؤكد أنه كان يتمتع بالذكاء والفطنة والسياسة والقدرة على تحقيق الشعبية، والدفاع عن وجوده في السلطة، والحفاظ عليها، وأدوات التمكين لذلك سياسية وعسكرية واجتماعية وثقافية قبل أن تكون دينية، وهو أجاد توظيف هذه الأدوات.

ثم هناك مشكلة في الذهنية المسلمة تتمثل في شيوع رؤية تجعل من عاصروا فترة النبوة وما بعدها بسنوات، كأنهم والأنبياء سواء، وتمنحهم قداسة خاصة.

هم لهم مكانتهم بالطبع، لكن يجب التعامل معهم باعتبارهم بشرًا لهم مزاياهم وأخطاؤهم، وهنا سنفهم شخصيات عهد النبوة بشكل أفضل وأكثر وضوحًا، وهنا سنفهم معاوية على الحقيقة وسندرك استفادته مما لديه من قدرات واستغلالها للصعود بها في سلم القيادة والنفوذ.

النص المكتوب

هناك من يتهم النص المكتوب بالضعف، والسقوط في أخطاء تاريخية لا تمر على مبتدئ في دراسة التاريخ، لكن السيناريو اجتهاد نابع عن قراءة واسعة للفترة التي يعالجها العمل، ويصعب التقليل من قدر الكاتب الباحث مع إدراكنا للخبرة فهي عامل مهم في صياغة النص الدرامي التاريخي أو الاجتماعي أو السياسي أو الترفيهي، ولذلك يندرج نص معاوية الذي كتبه الثلاثي: خالد صلاح ومحمد اليساري وبشار عباس -كما هو مدون في تترات المسلسل- في باب الاجتهاد المقبول.

وفي النص الدرامي التاريخي خصوصًا يبرز العمدة في هذا المجال، وهو وليد سيف، المؤرخ والمفكر والمثقف الفلسطيني الذي يكتب ويفسر ويحلل ويفلسف التاريخ والأحداث ويقدم رؤية عميقة رصينة شديدة الحرفية والرقي.

المصدر : الجزيرة

إعلان