ماسبيرو المشكلة والحل (5) دولة “البصاصين” في المبنى!

مبنى الإذاعة والتلفزيون المصري (ماسبيرو)

قديما كان ماسبيرو (اسم مبنى التلفزيون المصري) يشترط موافقة الأمن على التعيين في أي وظيفة به في تصرف غير قانوني، فلا يمكن لمبدع مهما كانت موهبته أن يكون أحد أبناء ماسبيرو إلا بتلك الموافقة، والمثير للدهشة أن تجد داخل لجنة اختيار القيادات الإعلامية “رئيس قطاع الأمن”، ولا تسأل لماذا هو موجود؟ وإذا سألت ستخرج من اللجنة وأنت متأكد أنك لن تلتحق بالوظيفة التي تستحقها.

تزداد الدهشة عندما تجد أن قيادات ماسبيرو بولائهم لإدارة الأمن والأجهزة الأمنية يتطوعون بلا سند قانوني لإبلاغك بضرورة موافقة الأجهزة الأمنية على تعيينك كقيادة أو عند تجديد ترقيتك. وطبعا لا مانع من دعمهم بمعلومات عن السيد المذكور بأنه مطيع (وهذا هو المطلوب)، أو على العكس: مثقف وله مواقف سياسية وفكرية أو يساري، شيوعي، إخواني، أو يشارك في مظاهرات احتجاجية (وهذا غير مرحب به).

وتصبح الاتجاهات السياسية والفكرية للإعلامي عائقا أمام عمله وسببا في إبعاده عن الأعمال، ويتحسس رئيسه في الموافقة على أي مقترح إعلامي أو فني له، بل يتطور الأمر إلى مصادره فيخشى الموافقة على مصادر معينة ويذهب إلى مسؤولي قطاع الأمن لاستشارتهم في مصادر معينة، ومن هنا كانت قوائم المصادر الممنوعة. ويتوحش التوغل الأمني حتى يصبح قطاع الأمن مكانا لحلول مشاكل إعلامية، وتجد مجموعة عاملين لديهم مشكلة إعلامية فيذهبون لرئيس القطاع لإيجاد حلول لها، وصارت الغالبية في ماسبيرو منتسبين للأمن حتى لو لم يحتج الأمن لهم.

توغل أمني

هكذا صار قطاع أمن التليفزيون يتحكم في كل ما يتم في المبنى الكبير من تعينات وما يذاع على الشاشة، وتصبح علاقة الإعلاميين برؤساء ومديري القطاع أهم الميزات لديهم فهي مفتاح الحصول على برامج أكثر أو عمل درامي متميز في قطاع الإنتاج، ووسيلة لتعيين الأقارب والمعارف وترقيتهم. في المقابل على الإعلامي الذي حاز رضا الأمن أن يصبح مرشدا على زملائه والمصادر الإعلامية سواء من يتم استضافتهم أو يتعاونوا في تجهيز المادة الإعلامية، وكذلك يصبحوا أدوات دعاية حزبية للحزب الحاكم أو لقيادات المحليات والدولة، وفي تلك مكاسب كثيرة لهم.

أذكر أن كثيرا ممن حازوا مواهب إعلامية وفنية في قنوات التليفزيون وقطاعاته قد تم محاربتهم بسبب ثقافتهم أو أفكارهم، وتدخل قطاع الأمن كثيرا في إيقاف إنتاجهم الإعلامي والفني، وكثيرون وجدوا في البحث عن التميز الذي يمتلكون أدواته إعاقة أمام مستقبلهم المادي والإبداعي فتحولوا إلى مجرد منفذين لما يملى عليهم.

غضب من هيمنة الأمن وفساد الإدارة

أتذكر في 20 مارس/ آذار 2003 أثناء احتلال بغداد، وكنت أقدم حلقات عن المقاومة العربية عبر التاريخ على شاشة الثقافية المصرية، وكنا نبث الحلقات من استوديو في المقطم، وأثناء خروجي من المبنى استوقفني أمن التليفزيون واستولى على شرائط البث، وذهبت إلى رئيس قطاع الأمن معترضا على ما حدث، وعند دخولي مكتبه وجدت السيرة الذاتية لي عنده، ومعد البرنامج وطلب مني أن أتوقف عن البث، فرفضت وقلت له: إني سوف أبث ما حدث معي على الهواء، ولأن قبضة الأمن لم تكن قد استحكمت كما حدث فيما بعد فتراجع الرجل وتم بث الحلقة.

إيقاع هيمنة قطاع الأمن تصاعد فيما بعد، وفي سنوات تولي أنس الفقي الوزارة اتسعت، رغم حالة الانفراجة الشكلية في البرامج الإخبارية في تلك الفترة التي شهدت برامج مثل: البيت بيتك، وحالة حوار، وغيرها من البرامج التي بدأت تنتشر منذ 2004 والتي تطورت في الإعلام المصري من حالة الحوار إلى المونولوج لمقدمي البرامج (برنامج المذيع الواحد)

في مارس 2009 كانت تلك البرامج قد هيمنت على ماسبيرو واختصت بها القناة الأولى وقطاع الأخبار، وقد كانت مقتصرة على القادمين من خارج ماسبيرو وبعض ذوي الحظوة لدي القيادات، وكانت أجور هؤلاء ضخمة جدا لدرجة لا يتصورها أحد وعرفنا الأجر الذي يصل إلى الملايين (تذكر المكالمة الهاتفية بين أنس الفقي ومحمود سعد على الهواء)، وبعضهم كانوا أبناء ماسبيرو فكانت الحيلة لهم إجازة بدون مرتب ثم تعاقد من الخارج (تامر بسيوني مثالا). وأذكر أن مدير تحرير البيت بيتك كان يحصل على 330 ألف جنيه شهريا (ما يعادل في تلك الفترة 50 ألف دولار)، وفي تلك الفترة كان أقصى دخل لأبناء ماسبيرو لا يتعدى 5 آلاف جنيه.

مارس 2009 تظاهر خارج الأسوار

إزاء هذه الأوضاع تصاعد الغضب واحتج أبناء ماسبيرو ثم خرجوا أمام المبني اعتراضا على استبعادهم واستدعاء الغرباء. وظلت المظاهرات مشتعلة ثلاثة أيام. وخلال الإعداد لهذه المظاهرات كان لقطاع الأمن الدور الرئيسي في تهديد العاملين ومحاولة إثنائهم عن التظاهر. وخلال أيام التظاهر جاء العديد من المفاوضين من أعضاء مجلس الشعب، ثم كان الحادثة الكبرى وهي: احتجاز قطاع الأمن ورئيس الاتحاد في ذلك الوقت أحمد أنيس لعشرات ممن تخيلوا أنهم مثيروي التظاهر وتهديدهم.

كان هذا التدخل الأقوى لقطاع الأمن الذي اعتمد على عديد الإعلاميين سواء من أبناء العاملين أو ممن ساعدهم في الترقية والتعيين. وقد انتهى التظاهر بنزول وزير الإعلام أنس الفقي وطالب الإعلاميين بمنح مساحات لأبناء ماسبيرو، ووعد بعمل لائحة أجور جديد لهم، وإنشاء نقابة للإعلاميين، وتقليل عدد المتعاملين من الخارج وإبعاد يد الأمن عن الإعلام، وتغيير قيادات ماسبيرو وهو الذي تم في 6 إبريل 2009 وهو اليوم الشهير سياسيا بيوم الغضب الذي اعلنته القوى السياسية في ذلك العام قبل يناير بعامين، وكان خروج أبناء ماسبيرو دليل واضح على الغضب الشعبي على نظام مبارك.

مؤخرا أصبح الكثيرون من العاملين في الهيئة الوطنية للإعلام “بصاصين” ينقلون تحركات زملائهم إلى جهات الأمن التي تعددت داخل ماسبيرو، وشهدت السنوات بعد 2016 رقابة هؤلاء البصاصين على صفحات التواصل الاجتماعي للعاملين، ونقل هذا للرؤساء الذين يتولون توصيل المعلومات والآراء إلى جهات الأمن سواء القطاع نفسه أو أجهزة الدولة الأمنية. فكل جهاز له من يتبعه داخل الهيئة، وصارت العلاقات في بعضها علنية.
الجديد الآن هو وجود إدارات من داخل قطاعات ماسبيرو أصبحت هذه مهنتها ولها مديرو عموم وموظفين تقوم بالرقابة والتجسس على الإعلاميين، ومن ثم تحويلهم إلى النيابة الإدارية والمحكمة التأديبية.

هل يستطيع المسلماني؟

السؤال: هل يستطيع أحمد المسلماني رئيس الهيئة ومجلسها الجديد أن يخفف من قبضة القطاع والأجهزة الخارجية عن الإعلاميين سواء في أعمالهم داخل المبنى وعدم الرقابة على المصادر الإعلامية أو الآراء الشخصية على وسائل التواصل؟ هل يمكن أن يعطي مساحة لحرية التعبير عن مشاكل المجتمع الاجتماعية والاقتصادية، وحتى لو تم استبعاد الموضوعات السياسية؟ هل يمكن أن تصبح قواعد التوظيف والترقيات في ماسبيرو بدون موافقات أمنية؟

لا أريد هنا أن يكون الموضوع صعبا وأطلب تنوع الاتجاهات السياسية لكن على الأقل كفالة حرية العمل الإعلامي بعيدا عن تعقيدات الحالة السياسية.

تلك أحد أهم معضلات المسؤولين عن الهيئة الوطنية للإعلام.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان