صومعة الخوف.. والأمل الزائف ومبرر الاستبداد

 

 

 (1) يحكمون بالخوف

“صومعة” (Silo) مسلسل أمريكي من نوع الخيال العلمي الذي يتخيل عالم ما بعد الكارثة، التي قد تكون من صنع الإنسان أو الطبيعة، والنتيجة هي زوال الحياة التي نعرفها. المسلسل من إنتاج منصة آبل، ومأخوذ من ثلاثية للكاتب الأمريكي “هيو هاوي”، وهو من الكتاب المتميزين في هذا النوع. تم تحويل الثلاثية إلى مسلسل، حيث عُرض الجزء الأول عام 2023، والثاني مع بداية العام الحالي، ومن المتوقع عرض الجزء الثالث العام القادم.

تدور أحداث المسلسل في مبنى ضخم تحت الأرض يسميه سكانه الصومعة، ويبلغ عددهم حوالي 10 آلاف نسمة، وهم يرون هذه الصومعة بمثابة الوطن الذي يلتزمون بحمايته.

هذا المبنى الشاهق الحلزوني مكون من 144 طابقًا، ويحتوي على منجم لاستخراج المعادن، ومزرعة تمد السكان بالغذاء، ومصدر للمياه الجوفية. هذا البرج العملاق لا يحتوي على مصعد كهربائي، والجميع يصعد ويهبط على الأقدام، ليصبح التواصل بين الطوابق عند الضرورة فقط. الطوابق مقسمة حسب فئات المجتمع؛ فالطوابق العليا من نصيب القسم التقني الذي يدير الصومعة باستخدام خوادم كمبيوتر عملاقة، إضافة إلى الهيئة القضائية والعاملين بها، وعمدة الصومعة، ومأمور المزرعة، وجهاز الشرطة والأمن الذي يعمل تحت إمرته. وتتوالى الطوابق حتى نصل إلى الطوابق السفلى، حيث يعيش الميكانيكيون العاملون على صيانة مولدات الطاقة، وعمال المنجم، وغيرهم من أصحاب الأعمال اليدوية التي تتطلب مجهودًا عضليًّا وليس ذهنيًّا.

لا أحد في الصومعة يعرف من الذي بناها، ولا ما الذي حدث خارجها وجعل الهواء مسمومًا وخطيرًا على أي شخص يحاول الخروج منها. ولا أحد يعرف متى ستنتهي هذه المأساة. سكان هذه الحضانة العملاقة لم يروا نور الشمس ولم يشعروا بدفئها، ولم يشاهدوا ضوء القمر أو النجوم، ولا يعرفون معالم العالم القديم. الحياة في الصومعة خالية من الألوان إلا اللون الرمادي. كل ما يعرفه سكان الصومعة هو صورة للعالم الخارجي عبر زجاج الكافتيريا، لمشهد لا يتغير، حيث تظهر شجرة ومروج خضراء وأضواء تزين سماء هذا المشهد، الذي سنعرف لاحقًا أنه مصنوع بواسطة الكمبيوتر ليعطي سكان الصومعة أملًا. ولكن الحقيقة أن الأرض جرداء ولا أثر للحياة عليها، فقط جثث متناثرة لأشخاص خرجوا ليلقوا حتفهم خارج الصومعة بسبب الهواء المسمم.

ممنوع على سكان الصومعة اقتناء أي أثر قديم أو تداول صور أو كتب تظهر العالم القديم حتى لا تحدث بلبلة بين السكان. يتم التحكم في حياة المواطنين بمراقبتهم عبر شاشات تغطي كل الطوابق، وكذلك الكبائن التي يعيشون فيها ويختلف مستواها حسب الطابق الذي يعيشون فيه. يتحكم في كل هذا رئيس القسم التقني، وهو الذي يحدد الأزواج الذين لهم حق الإنجاب أو عدمه. الأزواج المطيعون يعطون فرصة للإنجاب، بينما المتمردون والفضوليون وأصحاب السوابق السيئة يتم حرمانهم من هذه الفرصة التي لا تتكرر سوى ثلاث مرات في حياة الزوجين عبر قرعة، يتم ذلك بزرع أجهزة تمنع الإنجاب في أجساد النساء ويخرجها الطبيب حين يُطلب منه ذلك.

يتم التحكم في الصومعة عبر “الميثاق”، وهو الكتاب الذي وضعه المؤسسون المجهولون لإدارة الصومعة عبر قوانين ملزمة وأحكام رادعة للمخالفين، أقصاها أن يتم الحكم على الشخص المدان بالخروج منها لتنظيف العدسة التي يرى من خلالها مواطنو الصومعة العالم الخارجي المزيف. عادةً ما يموت هذا الشخص خلال دقائق معدودة، وتتابعه عيون السكان وهو يخرج مرتديًا بدلة وخوذة تشبه تلك التي يرتديها رواد الفضاء. والمفترض أن هذه البدلة تقيه من تلوث الهواء في الخارج، ولكن الحقيقة أنه يتم تسميمها حتى لا يفكر أحد في الخروج من الصومعة.

طبقا للميثاق، أي شخص يعلن رغبته في الخروج من الصومعة يتم تحقيقها فورًا، ليكون عبرة للآخرين لأنه يلقى حتفه أمامهم. ومن يعلن رغبته في الخروج يكونون من أصحاب الأمل في أن العالم الخارجي ما زال جميلًا كما كان في الكتب القديمة المصورة التي تقع بين أيديهم خطأً، ونتيجة معلومات مضللة من بعض العجائز الذين يتحدثون عن الحنين لماضٍ مبهم. تبدأ مأساة الصومعة رقم 18 حين تسعى أليسون زوجة المأمور بيكر حثيثًا نحو أمل كاذب وتطلب الخروج أملًا في حياة حرة في عالم بلا حدود.

وتتوالى الأحداث وتتفجر مع الحكم على بطلة المسلسل “جولييت” بالخروج رغمًا عن إرادتها. وبفضل أصدقاء لها، لا يتم تسميم البدلة، ويشاهد مواطنو الصومعة جولييت وهي تسير قدمًا اتجاه التل البعيد وتغيب عن أنظارهم ولا تلقى حتفها كالآخرين. لكن ما لا يعلمه مواطنو الصومعة أن جولييت تكتشف حجم الدمار الهائل الذي حل بالعالم، وتبحث عن صومعة أخرى تلجأ إليها لتبقى على قيد الحياة، حيث تجد عددًا كبيرًا من الصوامع المبنية تحت الأرض التي تماثل الصومعة التي كانت تعيش فيها. تلجأ إلى الصومعة الأقرب إليها، وهي رقم 17، لكنها تكتشف جثثًا كثيرة خارجها وداخلها، وليس هناك إلا شخص واحد على قيد الحياة، بقي متحصنًا داخل خزانة تتبع القسم التقني.

تعلم منه أن مأساة صومعته بدأت بعد خروج أحدهم للتنظيف، ولكنه لم يمت في الخارج. وانقسم أهل الصومعة بعدها إلى راغبين في الخروج على أمل أن يجدوا عالمًا ملونًا بدلًا من عالمهم الرمادي الكئيب، وآخرين موالين للسلطة وراغبين في الاستقرار، يحاولون منعهم بالقوة. لتبدأ حرب بين الطرفين يموت فيها أعداد كبيرة، والباقون يموتون أيضًا: من خرج مات من تسمم الهواء، ومن بقي مات نتيجة خراب منشآت الصومعة وحرمانهم من الطعام والماء ومولد الطاقة.

أصبح هدف جولييت العودة لتحذير سكان صومعتها من السير وراء أمل كاذب. وعلى الطرف الآخر، يبدأ تمرد في الصومعة لمعرفة حقيقة ما يحدث في الخارج بعد أن شاهد الجميع جولييت على قيد الحياة بعد خروجها. ونتيجة استبداد السلطة الحاكمة ممثلة في “برنار”، رئيس القسم التقني الذي يأمر بقتل العديد من المسؤولين المتسامحين ومنهم حبيبته السابقة وتتسارع الأحداث. ولست بصدد الحديث عن التفاصيل ولكن عن المغزى.

(2) الاستبداد العالق بين مبرر الاستقرار وافتقاد العدالة

في مسلسل “الصومعة”، الذي تتشابه أحداثه مع ما يحدث في عالمنا، نجد كيف يتم تحريف القوانين التي وضعها الآباء المؤسسون لصالح الجميع، لتخدم السلطة الحاكمة التي تحكم سيطرتها على المواطنين بالخوف والخداع، وتتلاعب بمصائرهم بمراقبتهم ومن ثم تهديدهم بخرق القانون. لكن أيضًا يتبين لنا أن مخاوف الحاكم المستبد من الفوضى وعدم الاستقرار لها مبررها، ولذا يستخدم القوة الغاشمة لسحق أي تمرد أو معارضة، لأن البديل هو تمزق المجتمع وتخريب المنشآت العامة. ولكن لأنه مستبد ولا يستمع إلى نصح الآخرين، يتغافل هو نفسه عن القانون ويتخلى عن العدل. وهذا التخلي هو الذي يؤدي في النهاية إلى الاستقطاب المجتمعي وانعدام الرضا الشعبي، ويعرض المكان الذي يحكمه إلى عدم الاستقرار والحروب الأهلية، على عكس ما كان يرجوه. ولهذا يبدو أن وصف “المستبد العادل” قد يكون حلًّا، حيث يقبض الحاكم المستبد على مفاصل الدولة، لكنه يحترم القانون ويلتزم بالعدل.

مسلسل “الصومعة” هو مرآة مصغرة لمجتمعاتنا، فهو يناقش الخوف الذي تزرعه السلطة فينا، وبحثنا الأبدي عن أمل زائف قد يكون فيه فناؤنا لا انعتاقنا، ومعضلة الاستبداد بين مساوئ اختراق القانون وتوفير الاستقرار.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان