الإعلانات التلفزيونية بين التأثير والإزعاج: هل حان وقت التغيير؟

إعلان تلفزيوني تقدمه الحكومة البريطانية لمواجهة السمنة (غيتي)

في الأول من يوليو/تموز عام 1941، اجتمعت عائلة في نيويورك أمام جهاز التلفزيون لمتابعة مباراة بيسبول بين فريقي بروكلين دودجرز وفيلادلفيا فيليز. لم يكونوا وحدهم في هذه الأجواء، فقد كانوا من بين 4000 أسرة فقط تمتلك أجهزة تلفزيون في المدينة آنذاك. وبينما كانوا ينتظرون بدء المباراة، ظهر على الشاشة شيء غير مألوف، شيء لم يروه من قبل، إعلان تجاري!

كانت الصورة متذبذبة وصوت في الخلفية يقول “أمريكا تعمل بتوقيت بولوفا”. كان الإعلان الذي لم تتجاوز مدته 10 ثوان هو الأول من نوعه في تاريخ التلفزيون، وهو لشركة الساعات الأمريكية الشهيرة “بولوفا”. لم يكن أحد يدرك حينها أن هذه اللحظة ستكون الانطلاقة الأولى لعصر جديد في عالم الإعلام والإعلانات.

من إعلان بسيط إلى صناعة ضخمة

مع انتشار أجهزة التلفزيون، أدركت الشركات مدى قوته وكونه وسيلة فعالة للوصول إلى الجماهير. فلم يعد الإعلان مجرد فاصل قصير بين البرامج، بل تحول إلى صناعة ضخمة قائمة بذاتها، تتنافس فيها العلامات التجارية لجذب انتباه المشاهدين.

وقد شهد عام 1949، نقلة نوعية في تاريخ الإعلانات عندما قدمت شركة فيتاميكس أول إعلان تجاري طويل. لم يكن إعلانًا تقليديًّا مدته بضع ثوانٍ، بل كان عرضًا حيًّا استمر نصف ساعة، حيث استُضيف مؤسس الشركة، ويليام جروفر برنارد، المعروف باسم “بابا برنارد”، الذي استغل مهاراته في البيع للترويج لمنتجه المبتكر: الخلاط المتطور.

كانت الفكرة جريئة ومحفوفة بالمخاطر، حيث كان بحاجة إلى بيع 18 جهازًا فقط لتغطية تكاليف الإعلان. لكن النتيجة فاقت التوقعات، إذ نجح في بيع 400 جهاز خلال ليلة واحدة، مما أكد أن التلفزيون لم يكن مجرد وسيلة ترفيه، بل أداة تسويقية قوية قادرة على تحقيق أرباح هائلة.

لم يقتصر تأثير الإعلانات التلفزيونية على الولايات المتحدة، بل سرعان ما انتشرت هذه الثورة الإعلامية إلى مختلف أنحاء العالم، لتصبح جزءًا أساسيًّا من المشهد التسويقي العالمي.

الإعلانات في العصر الرقمي: هل تُفقد التلفزيون هيمنته؟

اليوم، مع التطور التكنولوجي وظهور المنصات الرقمية، لم يعد التلفزيون المنصة الوحيدة للإعلان، بل أصبح مجرد جزء من منظومة إعلانية ضخمة تشمل: الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك، وإنستغرام، وتيك توك، وسناب شات. كما تؤدي محركات البحث مثل غوغل أدز دورًا رئيسيًّا في التسويق الرقمي، إلى جانب المحتوى الترويجي عبر المؤثرين أو الإنفلونسرز، الذين أصبحوا قوة إعلانية لا يستهان بها.

ولا يقتصر الأمر على الإنترنت، بل يمتد إلى الراديو والبودكاست، والإعلانات الخارجية كاللوحات الإعلانية الضخمة على الطرق، وشاشات العرض الرقمية في الأماكن العامة، إضافة إلى الإعلانات التقليدية في الصحف والمجلات. مع كل هذه الخيارات، أصبح المستهلك محاطًا بالإعلانات في كل مكان، مما يجعل البعض يتساءل: هل ما زال الإعلان التلفزيوني مؤثرًا كما كان في السابق؟

رغم المنافسة الشرسة، لا يزال التلفزيون يحتفظ بمكانته، خاصة خلال أوقات الذروة والمواسم المهمة مثل شهر رمضان المبارك والمواسم الرياضية والمناسبات الوطنية.

لكن يبقى السؤال: هل لا تزال هذه الإعلانات تحقق الهدف المطلوب، أم أنها أصبحت تُنفّر المشاهدين أكثر مما تجذبهم؟

شهر رمضان: موسم الدراما والإعلانات

يبدو هذا التساؤل أكثر إلحاحا مع قدوم شهر رمضان، حيث تتحول القنوات التلفزيونية إلى ساحة تنافس ساخنة، تسعى فيها كل محطة لجذب أكبر عدد ممكن من المشاهدين، لدرجة أن بعض القنوات تبدأ ببث الحلقات الأولى قبل حلول رمضان في محاولة لاستقطاب الجمهور مبكرًا.

لكن ما إن يبدأ المشاهد متابعة مسلسله المفضل، حتى يجد نفسه في دوامة لا تنتهي من الإعلانات، بين عروض الفيلات الفاخرة والشاليهات البحرية، وبين حملات التبرع للمستشفيات وبناء المرافق الصحية لعلاج مرضى السرطان والحروق وأمراض القلب. هذا التناقض في نوعية الإعلانات يجعل تجربة المشاهدة مشوشة وغير منطقية. حيث ينتقل المشاهد من إغراء الرفاهية والمشاهير إلى استثارة العاطفة في غضون دقائق.

وسط هذا السيل الجارف من الإعلانات الدرامي، لم تعد الفواصل الإعلانية مجرد استراحة قصيرة بين المشاهد، بل أصبحت تمتد بشكل مبالغ فيه، حتى إنها تكاد تنافس مدة المسلسل نفسه!

المشاهد الذي جلس متحمسًا لمتابعة أحداث مسلسله، يجد نفسه فجأة في دوامة من الإعلانات التي لا تنتهي، فيتملكه الضجر والملل، ويمسك بجهاز التحكم، محاولًا الهروب إلى قناة أخرى. لكن مع كثرة التنقل بين القنوات، يتلاشى تسلسل الأحداث، ويضيع شغف المتابعة، حتى يكاد ينسى ما كان يشاهده أصلًا.

هل حان الوقت لإعادة التفكير في الإعلانات التلفزيونية؟

ربما حان الوقت لإعادة النظر في أساليب البث الإعلاني، بحثًا عن صيغة تحقق توازنًا منطقيًّا بين حق المعلن في الترويج لمنتجاته، وحق المشاهد في الاستمتاع بتجربة مشاهدة مريحة دون انقطاع متكرر يعيد نفسه بلا جدوى. فهل تشهد السنوات القادمة تحولًا في شكل الإعلانات التلفزيونية أم أن هيمنة رأس المال الإعلاني ستستمر في فرض سطوتها، حتى يقرر المشاهدون الهروب إلى منصات خالية من الإعلانات بحثًا عن تجربة أكثر راحة وانسجامًا؟

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان