موقعة الضابط والسائق.. لماذا؟

موجة من السخط والاستياء اجتاحت الشارع المصري، بفعل انتشار مقطع “فيديو” لواقعة تعدي ثلاثة أشخاص بالضرب المُبرح على سائق “ميكروباص” مدارس في مدينة 6 أكتوبر (غرب العاصمة المصرية القاهرة) وسط ذهول المارة وعابري السبيل. الواقعة، جرت داخل “كمباوند” الفردوس عندما اصطدم “الميكروباص” بسيارة ملاكي تقودها سيدة. بادر السائق ويدعى إسلام عبد الغني، بالاعتذار للسيدة، فرفضت، متوعدةً إياه بالويل والثبور وعظائم الأمور. إن هي إلا دقائق، وحضر زوجها، وهو ضابط بالمعاش، بصحبة ولديه الشابين، لينهال ثلاثتهم، ضربا على السائق المسكين الذي أوقعه حظه العاثر في طريقهم، وأحدثوا تلفيات بسيارته.
ضربوه.. وسحلوه
كما هو مُعتاد، في مثل هذه الحالات، فالمارة، يكتفون بالفرجة وتسجيل ما يجري بالصوت والصورة.
تداول “الفيديو” على صفحات التواصل الاجتماعي، فأثار غضبا واسعا بين الجمهور، لكون المُتعدي صاحب نفوذ (ضابط بالمعاش)، بينما السائق لا حول له ولا قوة.
اقرأ أيضا
list of 4 items“الحذاء الشرعي”.. بعد إطلالة زوجة أحمد الشرع
فساتين الرجال.. وثورة ثقافية تتشكل
“بلبن”.. لماذا الإغلاق والتشميع؟
وزارة الداخلية، رصدت المقطع المتداول، وألقت القبض على أطراف الحادث (المعتدين، والمُعتدى عليه)، وحررت محضرا بالواقعة، وأحالتهم إلى “النيابة العامة”، فأمرت بإخلاء سبيل السيدة، وحبس زوجها أربعة أيام على ذمة التحقيق. كان يمكن للسيدة، قبول اعتذار “السائق”، أو طلب تعويض، عما طال سيارتها من إتلاف، فإن لم يمتثل استدعت له الشرطة للمعاينة، وتحديد “المتسبب في الحادث”، واتخاذ اللازم قانونا. فإذا حضر زوجها، وأنجالها، فكان عليهم اللجوء للطريق ذاته بالقانون، لكنها الطبقية المُستفزة والنفوذ والاستعراض، بالتجبر على السائق المغلوب على أمره، والتوحش واستعراض القوة، أمام الجمهور الذي يتلذذ بالفرجة والتصوير. بحسب السائق ومحاميه، فإن المتعدين عليه ضربوه وسحلوه، دون أي محاولة للتدخل من الجمهور الحاضر، المتفرج.
غطرسة.. وشعور دفين بالنقص
المشكلة هي في الشعور بالتميز الطبقي الذي يغلُب على سكان “الكمباوند” سواء الفردوس الذي وقع به الحادث، أو غيره، فـ”الكمباوند”، هو تجمع سكني متكامل، مؤمن بأسوار، وبوابات وحراسة، ومعزول عما هو خارج أسواره العازلة. بطبيعة الحال، فلا يسكن في “الكمباوند” إلا الموسرون، وأصحاب النفوذ، والثروات الجُدد، وبعضهم جنوا ثرواتهم من أعمال السمسرة، وأنشطة غير إنتاجية، أو تمكنوا منها بعدما كبروا، وربما لدى بعضهم شعور دفين بالنقص. كما يبدو، أن بعضا ممن يسكنون في “الكمباوند” (أي كمباوند)، يشعرون بأن “الوجاهة الاجتماعية”، لا تكتمل إلا بالتباهي، واستغلال النفوذ، والتعالي، والتعامل بفوقية، وغطرسة، وعنصرية، مع العاملين في “الكمباوند” من سائقين، وبائعين، ومدرسين، والخادمات، والحُراس، وعُمال الحدائق، وغيرهم.
فوق البشر.. وتجبُر
الجاني هنا، بحسب التحقيقات الأولية، زوج السيدة صاحبة السيارة الملاكي، وهو ضابط متقاعد. البادي من سلوكه، أنه يعتنق فكرة أنه فوق البشر، ولا تلزمه الشرطة لإعمال شؤونها، وبدلا من اتخاذ اللازم قانونا، لاستخلاص ما قد يكون حقا له، أو لزوجته بشأن تصادم “الميكروباص” بسيارة زوجته، فإنه اختار التجبر إلى حد التوحش، استنادا إلى نفوذ وظيفته قبل التقاعد، وشعوره بأنه فوق المُساءلة والمحاسبة، حال ارتكابه خطأ أو جريمة.
من ثم، فإنه لجأ إلى إزاحة القانون وتغييبه، واستدعاء قانون الغاب، فهو يرى نفسه السيد، والأقوى. بينما سائق “ميكروباص” التلاميذ، مجرد واحد من “الناس”، الذين ربما ينظر إليهم باعتبارهم، والعدم سواء، أو أنهم عبيد في أحسن الأحوال. قضية أخرى، صارت حاضرة بكثافة في المجتمع. تكمُن في نهج التفكير الساري لدى الكثيرين (من أصحاب النفوذ، والعوام على السواء)، بأن على الواحد منهم أن يقتص لنفسه، ويستخلص حقه بيديه، فإذا وصل الموضوع إلى الشرطة، أو لجأ إليها، “صاحب النفوذ”، فإن الأخير يرى، أنه يحق له التنكيل بالطرف الآخر، تلفيقا وضلالا، مهما كان الموضوع بسيطا. بغض النظر عن الاستجابة له من عدمها.
مقاطع “الفيديو”.. والتمييز بين الظالم والمظلوم
سوء طالع الضابط بالمعاش (الجاني)، قاده إلى الحبس الاحتياطي، على غير ما كان يتوقع ويتمنى، وحسنا فعلت، وزارة الداخلية، باحتواء الأزمة سريعا، بالقبض على أطراف الحادث، وجلبهم لعرضهم على النيابة العامة، التي باشرت التحقيق مع الجناة والمجني عليه والشهود لثمان ساعات متصلة، وأمرت بتفريغ “كاميرات” المراقبة في محيط الحادث، ومقاطع “الفيديو” المتداولة، وأحالت سائق “الميكروباص” للطب الشرعي، لبيان ما طاله من إصابات. ثمة انتقادات طالت “وزارة الداخلية”، من رواد منصات التواصل الاجتماعي، كونها، ساوت بين الجاني والمجني عليه في موقعة الفردوس، بإلقاء القبض عليهم جميعا. من الإنصاف، أن ما أقدمت عليه الداخلية هو الصواب، فلا يمكن تمييز الجاني من المجني عليه، بمجرد مشاهدة مقطع “الفيديو” المتداول، أو مقطعين، فكل مقطع لأي واقعة، يتم تصويره من زاوية ما، حيثما يقف مُلتقط “الفيديو”.
بالتالي، فلا يمكن الجزم بحقيقة الواقعة، وتحديد الظالم، من المظلوم، فكشف الحقيقة والتيقن منها، وتحديد الجاني من المجني عليه قطعيا، هي مهمة حصرية لجهات التحقيق، بما تملكه من صلاحيات وسلطات، لذا فالنيابة العامة حققت مع أطراف الموقعة، وأمرت بتفريغ “كاميرات” المراقبة في محيط الواقعة، واستمعت إلى شهود الحادث وتفاصيله. من ثم، توصلت إلى حقيقة ما جرى، وحددت الجاني والمجني عليه، فأخلت سبيل سائق “ميكروباص” المدارس.
إننا بحاجة ماسة إلى تفعيل “القانون”، وتطبيقه على الجميع، وأنزال سيفه على رقاب الجميع، أيًا كانت مراكزهم، أو وظائفهم، أو مكانتهم الاجتماعية، أو انتماءاتهم، فالقوانين تُسن، وتصدر لتسود وتعلو فوق رؤوس الجميع، وهاماتهم، والقانون هو الأداة الفعالة لأمن المجتمع، والدرع الحامي من الفوضى.
نسأل الله السلامة لمصر المحروسة.