في ليلة القدر.. متى تعود الأمة ذات قدر؟

يأتي رمضان كل عام منحة من الله وتكريما لأمة الإسلام، خير أمة أخرجت للناس، وقد شرّف الله شهر رمضان بأعظم ليلة، ليلة القدر، التي هي خير من ألف شهر، وبذلك خص الله أمة نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- بما لم تختص به أمة من قبل، وجمع لها بين شرف الزمان وشرف المنهج.

في هذا العصر الذي أصاب الأمة فيه ما أصابها، ومع كل تحرٍ لليلة القدر في رمضان كل عام، يتساءل المهمومون بأمر الأمة الإسلامية، متى تعود الأمة ذات قدر؟ فأمة خصها الله بليلة القدر، لا بد أن تكون على قدر منهج القدر، حتى تظل دوما ذات قدر.

{كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}.

إن أمة الإسلام التي اختصها الله بليلة القدر لا شك أنها أمة ذات قدر، يتحقق قدرها الذي ميزها الله به ما دامت متمسكة بمنهج ربها، ملتزمة هدي نبيها -صلى الله عليه وسلم-.

وتفضيل الله لأمة الإسلام على غيرها من الأمم وما حباها واختصها به في الدنيا والآخرة، إنما ذلك تشريفا وإكراما لرسولها محمد -صلى الله عليه وسلم-، الذي فضّله الله على سائر الأنبياء، قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}.

ماضٍ مجيد وحاضر مبتذل

لقد ابتلي المسلمون في زماننا هذا بسوء فهم معاني العبادات، ولذلك ساءت أحوالهم وأصبح بأسهم بينهم شديدًا، وباتوا أكثر حرصا على الحياة وأسبابها، فذلوا إلى أعدائهم حتى أماتهم الذل، ولو أنهم حرصوا على الموت وأسبابه لوهبت لهم الحياة وعزوا في الدنيا وفي الآخرة.

وبين ماضٍ مجيد تليد وحاضر مبتذل، تعيش الأمة الإسلامية واقعا تئن فيه من هزائم متتالية، وحالة من التخلف عن مكانتها الواجبة لها كأمة ذات قدر، حيث تعاني الضعف والوهن وانعدام القدر منذ أكثر من قرن من الزمان، ولا سبيل لعودتها أمة ذات قدر كما خصها الله إلا بالعودة إلى شرع ربها ومنهاج نبيها.

وما أصدق قول القائل:

معلقونَ على أوتارِ موتانا … نوزعُ المجدَ بين الناسِ ألحانا

العزفُ حزنٌ إذا ما القلبُ لامسه …  قد يُلبسُ الحيُّ قبلَ الموتِ أكفانا

ضاعَ الزمانُ بنا والضعفُ داهمَنا … إلامَ نسعى إلى كنا وما كانا؟

ويقول:

تمضي الحروفُ بنا والوهمُ مركبُنا … حتَّام نبني هنا بالشعرِ أوطانا؟

لا ترتقي أممٌ من دونِ شرعتها … يمِّم فؤادكَ نحو الله إذعانا

رمضان وجرح الأمة الغائر

وكما أتى كل عام وفيه ليلة القدر، أتى رمضان هذا العام وجسد الأمة قد أُثخن بمزيد من الجراح، وأشدها إيلاما جرح فلسطين وغزة الغائر، وتشكو غزة وأهلها إلى الله وقوف العرب والمسلمين عند عتبة الشجب والتنديد، فحضرت الأقوال وغابت النصرة بالأفعال، وأصبح الاكتفاء بالدعاء دون الأخذ بالأسباب العملية، وبات أعداء الأمة في مأمن من غضبها!

فرغم جرائم إسرائيل التي تجاوزت كل حد، وانتهكت الأعراف الإنسانية كلها، وتزداد وتيرتها يوما بعد آخر، نجد العرب والمسلمين قد انغمسوا في متع الحياة وترفها واكتفوا بالدعاء في المساجد على استحياء، ولم تحرك طاقة الإيمان في شهر رمضان عجلة الأفعال، لتؤثر في معادلات الحكم والسياسة، لردع الدولة الصهيونية عن جرائمها بحق إخوة في الدين والعقيدة والإنسانية.

لقد كان العرب قديما إذا حل بهم مكروه أو تعرض لهم عدو فنال منهم، منعوا أنفسهم من اللهو واعتزلوا ترف الحياة، وما كان الواحد منهم يسمح لنفسه بالفرح إلا إذا نال ثأره من عدوه، وقد لخص ذلك النابغة الذبياني فقال:

فَنِمْتُ اللَّيْلَ إِذْ أَوْقَعْتُ فيكم … قَبَائِلَ عَامِرٍ وبني تَمِيم

فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ وَكُنْتُ قَبْلًا … أكَادُ أغَصُّ بالماءِ الفُراتِ

وقبل ذلك كله، لنا في رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصحابته الأكرمين أسوة حسنة، فأين العرب والمسلمون الآن مما يحدث لإخوة لهم في غزة وفلسطين وفي بقاع مختلفة من هذا العالم؟!

الدعاء وحده لا يكفي

لا شك أن الدعاء أساس العبادة، فقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: “الدعاء هو العبادة”، ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ}.

لكن الدعاء وحده لا يكفي، بل هو متمم للعمل، وإن من خداع النفس الاكتفاء بالدعاء فقط دون الأخذ بالأسباب.

ومما يستدعي الوقوف عنده في هذا العصر أنك ترى كثيرا من المسلمين يدعون الله وهم هاجرون للأسباب، وهذا مما ابتلي به المسلمون، إذ نرى اليوم الكثير من المسلمين يدعون الله ولا يعملون كل ما في وسعهم مع الدعاء، ويتوقعون الإجابة بلا سعي وعمل.

ولقد رتب الله الجزاء في الآخرة على العمل مع الإيمان وليس على الإيمان وحده، ولا العمل وحده دون إيمان.

ولذلك قال الله تعالى: {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا}.

ثم يقول جل شأنه في الآية التي تليها: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}.

ومقتضى منهج الله هو العمل والدعاء، وذلك هو الإسلام، وهنا يقول جل شأنه: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّه وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا}.

أمة القدر والغياب عن المنهج

كم من رمضان عاشته الأمة الإسلامية على مدار عقود، وكم من ليلة قدر مرت على المسلمين، وتبحث بعدها عن فرق إيجابي في سلوك الأمة وحياتها فلا تجد، فكيف تظفر الأمة بليلة القدر وقد غشيتها غفلة عن كتاب ربها فهجره المسلمون منهجا ومسلكا قبل أن يهجروه تلاوة؟!

لا شك أن الأمة الإسلامية تمر بمنعطف حاد، وتعيش مرحلة خطرة في تاريخها، وأخطر ما تمر به الأمة هو استعباد الحياة لها، وفي ذلك يقول الشيخ الغزالي -رحمه الله- وأنقل عنه بتصرف: “إن على الأمة ألا تترك نفسها لاستعباد الحياة لها، وعليها أن تداوي تلك العلة التي جعلت الأمة أسيرة لغرائزها ومسترخصة للقيم ففترت همتها فساء حاضرها”، وفي المجتمعات التي فتكت بها هذه العلة يقول ربنا جل شأنه: {إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا}.

خاتمة

إن خيرية هذه الأمة من انتسابها إلى الإسلام شرعة ومنهاجا، وإن أمة القدر منهجًا وليلة فضّلها الله على سائر الأمم تفضيل بلاغ ومسؤولية.

إن إدراك المسلمين منزلة الإسلام في تاريخ البشرية واستقامة حياة الإنسانية يمثل وقودا دافعا لأمة الإسلام لتكمل رسالة نبيها في إنقاذ البشرية وتحصينها، وجبر الخسارة التي لحقت بالعالم نتيجة غياب المسلمين.

وإن كانت الأمة قد فقدت مكانتها وقدرها في غفلة من الزمن، فإنها يقينا ولا شك على موعد لن تخلفه لتعود كما كانت أمة ذات قدر، {وَيَقُولُونَ مَتَىٰ هُوَ ۖ قُلْ عَسَىٰٓ أَن يَكُونَ قَرِيبًا}.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان