ما كشفته قمة “الزمالك والأهلي”

الأهلي والزمالك في لقاء سابق

على خلفية عواصف أزمة مباراة القمة بين الزمالك والأهلي وانسحاب الأخير من الديربي الشهير الأسبوع الماضي تفاصيل وحكايات.

تفجَّر الجدل والشد والجذب والشحن بطريقة رهيبة بين المصريين وعلى شبكات التواصل الاجتماعي في أعقاب قرار الأهلي الانسحاب من القمة.

انقسم المجتمع بحسب اللونين الأحمر والأبيض، كل يدافع عن ناديه، وكل يبرر ويشرح ويحتج ويرفض، تعالت أصوات النقد والتحذير، وتواصلت الآراء المتنوعة التي غابت عن السياسة منذ سنوات ليست طويلة!

لكرة القدم سحرها الكبير بين المصريين، وللأهلي والزمالك جماهيرية كبيرة ومتنوعة تعبّر عن شرائح واسعة بين الشعب المصري.

انسحب الأهلي وقرر عدم استكمال مباراة القمة، فظهر المشهد العام خاويًا من كل شيء إلا كرة القدم.

فلا جدل إلا في مساحة المستطيل الأخضر وما حوله من تفاصيل وحكايات وبطاقات صفراء وحمراء.

ثم ظهر ما هو أوضح: القوة تسعى لهزيمة القانون، الأهم أن ينتصر فريقي وجماعتي، حتى لو جاء النصر على حساب التضحية بالقانون.

مشهد مخيف يستحق الالتفات!

لا شيء إلا كرة القدم

وسط حصار المجال العام طوال سنوات مضت، أصبحت كرة القدم هي المتنفس الرئيس للمصريين، والمجال الوحيد للتنافس، فلا تنافس في انتخابات عامة طوال سنوات مضت.

باتت الكرة هي المصدر الوحيد للبهجة وسط أحوال معيشية صعبة، وأزمات اقتصادية لا تنتهي، ولا خلاص منها في القريب العاجل على الأقل.

والمعنى أن الكرة هي الأولى، وأن الأهلي والزمالك هما أصل البهجة وروح المنافسة.

في حسابات السياسة، كلما تقلصت مساحات النقاش الحر حلت محلها كرة القدم ومناقشاتها.

عواصف ما جرى بعد انسحاب الأهلي من لقاء القمة نموذج لأن الكرة باتت كل شيء في المجتمع!

منذ سنوات ليست بعيدة، امتلأت الشوارع والساحات بتحركات سياسية جادة وسيولة غير مسبوقة على مستوى الأفكار والقوى الاجتماعية والأحلام التي تتنافس لبناء مستقبل أفضل للجميع.

خلال السنوات العشر الأخيرة أُغلق المجال السياسي تمامًا، فتحولت اهتمامات الشباب والجماهير إلى كرة القدم.

لعبة تنافسية وآمنة وممتعة، وهي المجال الوحيد الذي لا يزال يحتفظ بجزء من التفاعل الجماهيري والجدل العام والتنافس الجذاب.

في الجدل والشحن الكبير الذي حدث بعد مباراة القمة التي لم تكتمل جزء من السياسة!

صراعات تتجاوز المستطيل الأخضر لتصبح تعبيرًا عن الحوار الذي حوصر في الحياة العامة فخرج في الكرة.

ترجمة طبيعية لجزء من شحن كان يُترجم في نقاشات وحوارات سياسية واجتماعية، ولم يعد هناك الآن إلا الكرة مصدرًا لتفريغ الشحنات والطاقة السلبية والرغبة في التعبير عن الرأي.

غابت كل قنوات التعبير فتحملت الكرة وحدها هذا الدور، وتجاوزت دورها في الترفيه لتصبح متنفسًا وحيدًا، تحمل أوزار غياب السياسة وإغلاق النقاش العام والتنافس.

خرجت الآراء والانتقادات والتحذيرات وكل صور النقاش في مباريات الكرة، ثم غابت تمامًا عن باقي المجتمع.

صورة مخيفة للمستقبل!

“القمة” والقانون

فيما بعد 2011، كانت رغبة ملايين الناس هي إقامة دولة القانون.

دولة يعلو فيها القانون على كل المؤسسات والأفراد، يُطبَّق على الجميع بلا تمييز، ويحمي الجميع بلا تفرقة.

في انسحاب الأهلي وعاصفة ما جاء بعده تأكيد جديد لانهيار منظومة “دولة القانون”.

انسحب الفريق الكبير من المباراة، وراح يهدد ويتوعد المؤسسات التي تنظم الرياضة.

ثم وراء “الأهلي” ملايين المشجعين لم يسألوا عن قانونية ما فعل، ولا عن قانونية ما سيفعل.

الانتصار للتشجيع، والانتظار لأن تنتصر مؤسسة “الأهلي” بقوتها ونفوذها لا بقوة القانون ولا بعدالة القضية ذاتها.

عشر سنوات مرت كانت الكرة فيها هي الأولى، لكن المؤسف أن هذا الوضع ضاعف من عدم احترام القانون لدى الكثيرين، وأصبح الانتصار في عقول الكثيرين محكومًا بقوة المؤسسة ونفوذها، لا قوة القانون وتأثير اللوائح.

الأمل الوحيد في الموضوع هو أن اللجنة التي تدير المسابقة عاقبت الأهلي أمس وفقًا للقانون.

بدا هذا الإجراء وكأنه تحد للملايين الذين كانوا في انتظار انتصار الأهلي، لأنه قوي ليس لأنه صاحب حق!

بلا عودة السياسة إلى المجتمع، وبلا جدل عام يرسخ من قيمة دولة القانون والعدل والحرية، فإن البلد سيخسر كثيرًا من عقول أجيال قادمة لا ينبغي أبدًا أن تكفر بدولة القانون، وبقيمة القانون الذي يحمي الجميع بلا تمييز.

 هل استفدنا من المشكلة؟

في الرياضة بالتأكيد هناك استفادة مما حدث في مباراة القمة.

كل ما أثارته المشكلة أصبحت هناك ضرورة لتغييره أو تعديله.

تطوير التحكيم واحترام القانون وإدارة حوار دائم وبروح ودية بين جميع عناصر ومنظومة كرة القدم قد تكون دروسًا مستفادة مما حدث، ومن الضجة الكبيرة التي اشتعلت بعد عدم استكمال المباراة.

وقد يكون معها القادم أفضل وأكثر استقرارًا.

لكن الأهم ما استفدناه على مستوى قراءة الواقع العام، والمشهد السياسي الذي خلا من الحوار والنقاش، وسكنته كرة القدم بالكامل منذ سنوات.

عودة الجدل والحوار في المجتمع أصبحت ضرورة قصوى لا تحتمل التأجيل، وعدم ترك الأجيال الجديدة لكرة القدم فقط مهمة وطنية لا تقبل التأخير.

مصر بلد كبير، وحصار مجاله العام وقنوات الحوار والصحافة والإعلام فيه لن يصب في خانة المستقبل أبدًا، وقد بدت المؤشرات الآتية من كرة القدم غير مطمئنة أبدًا.

كشفت مباراة الأهلي والزمالك عن سيادة قانون مهدَّدة، ومجال عام مُصادَر، لكنها كشفت أيضًا أن المجتمع وأجياله الجديدة في خطر إذا لم ننتبه ولم نتدخل ونعدّل.

بلا حوار لا يمكن أن نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام.

هذه حقيقة مؤكدة.

والمؤكد أنه لا يمكن قبول أن نصل إلى مرحلة أن مدرجات الكرة هي الوحيدة التي تخرج منها “أصوات”، بينما أصوات أغلبية المصريين في السياسة والحريات والأوضاع المعيشية محاصرة ومصادرة.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان