سوريا.. وصفة لإفشال الثورات وللحرب الأهلية

الرئيس السوري أحمد الشرع (رويترز)

عدوك لن يصدقك القول لكونه يتمنى لك الفشل، ولكن المأساة أن ينافقك أصدقاؤك وأتباعك فتصل إلى المصير نفسه، وبين العدو والصديق ما يستحق الإصغاء لما يقال.

يتمنى ناس من غير الإسلاميين والمقتنعين بهيئة تحرير الشام، بل والإسلام السياسي في أغلبه وحتى مجمله، النجاح للمرحلة الانتقالية الحالية بسوريا، ولمن يقودها، وأن تضع دمشق الحبيبة البالغة الأهمية لعالمها العربي، على طريق التقدم.

بين هؤلاء من ليسوا أنصارا للنظام الحالي ولا من الغانمين بتأييده، أو من ينتظرون المغانم، أو المتحمسين له بزعم أو أمل “نصرة الإسلام”، أو بأن “فتح دمشق” يعيد أمجاد المسلمين الأوائل، ويمهد الطريق أمام جيل جديد من الإسلام السياسي بالمنطقة، وإن جاء هذه المرة ليس بخلفيات اعتدال “النهضة” بتونس و”العدالة والتنمية” بالمغرب، أو حتى إخوان مصر. وهذا لأن الكثير من الناس يخشى على سوريا والسوريين من عودة وحشية لما كان.

مخاصمة كلمة “الديمقراطية”

تتلاحق الأحداث بين ما هو ظاهرة سلبي وإيجابي. ومع كل حدث منها، وبعضها جلل مثلما جرى بالساحل السوري في 6 مارس/آذار الجاري 2025، تنداح استقطابات إقليمية سياسيا وإعلاميا، والعديد منها أعمى في حب نظام ما بعد 8 ديسمبر/كانون الأول، وبعضها أعمى في كراهيته. ووسط هذه الحمى والحمى المضادة تسأل عن المعلومة الصحيحة الموثوق بها.

ولو أخذنا بالنصوص، ونحن ما زلنا على اختلاف الألوان العقائدية والسياسية أسرى المسافات الطوال بين الكلمات والأفعال، للاحظنا يقينا غياب كلمتي “الديمقراطية” و”العدالة الاجتماعية”، أو ما يعبر عن إعادة توزيع الثروة والسلطة. وهذا سواء عند الإعلان الدستوري الصادر عن الرئيس أحمد الشرع في 13 مارس، أو مخرجات مؤتمر الحوار الوطني في 25 فبراير/شباط 2025.

غياب أو مخاصمة لفظة “الديمقراطية”، اقترن في الإعلان الدستوري (53 بندا) بحملة إعلان مبالغ فيها عن “التدين”، أراها أنا وغيري في غير محلها.

فهل يتسق كلام الإعلان الدستوري عن عدم التمييز بين المواطنين السوريين مع اختصاص المسلمين وحدهم بالحق في منصب رئيس الجمهورية. بل واستخدام عبارة تفتح على أبواب شر التفتيش في إيمان الحاكم وتدينه بين المسلمين أنفسهم: “دين رئيس الجمهورية هو الإسلام” (م3).

وما معنى وعواقب استدعاء “الفقه الإسلامي” إلى نص سياسي دنيوي يتعهد بـ“دولة حديثة”، وجعله “المصدر الرئيسي للتشريع”، وحتى ليس “مصدرا رئيسيا” وحسب؟ (م 3 أيضا).

ما معنى وعواقب تقييد كفالة الدولة لحرية قيام أتباع الأديان السماوية بشعائرها “بألا تخل بالنظام العام”؟ (م 3 نفسها). وما ضوابط تطبيق هذا التقييد، وألا يسيء استغلاله من يعتقدون أنهم هم وحدهم أصحاب الدين الصحيح؟ بل والدين الوحيد، إن لم نقل المذهب الوحيد الصحيح.

الطريق المفتوح

أمام دكتاتورية جديدة

في تاريخ المسلمين، كغيرهم من البشر، إيجابيات نتمنى استدعاءها، وأيضا سلبيات توظيف الدين والشريعة والفقه والمذاهب/ الطوائف في الاتجاه المعاكس المسيء إلى الإسلام والمثل الأخلاقية الرحيمة والعقلانية، والضار بالمسلمين وبإنسانية الإنسان.

تاريخيا عندنا نمط متكرر لتلويح أصحاب السلطة ومنافقيها بالدين والتدين لتأبيد التسلط والقهر وتعظيمه. وعلى البال ما فعله السادات في عهد كامب ديفيد والتطبيع مع الصهيونية وسنواته الأخيرة الأسوأ في احتكار السلطة والثروة وتضييق هامش الديمقراطية، حين استخدم تعديل المادة الثانية من دستور 1971 من “مبادئ الشريعة مصدر رئيسي للتشريع” إلى “المصدر الرئيسي” ليفتح أمام نفسه بوصفه “الرئيس المؤمن” الباب لفترة رئاسة تتجاوز التقييد السابق (فترتين متتاليتين فقط).

لذا يظل الأهم فحص ما تعد به النصوص بشأن سلطات الدولة وصلاحيات الرئيس. وفي الإعلان الدستوري للحكم الحالي بدمشق عديد من الأمور غير المطمئنة، وبالأدق ما يتعلق بالصلاحيات الواسعة لرئيس الجمهورية في الفترة الانتقالية. وأكتفي بالإشارة إلى ما يلي:

ـ هيمنته شبه التامة على مجلس الشعب إنشاء وتشكيلا وتعيينا لثلث أعضائه (م. 24)، واعتراضه على قوانينه (م. 39). ودون ذكر لبرلمان المرحلة الانتقالية في الرقابة على الرئيس وقراراته وتصرفاته، يتمتع هو بصلاحيات مطلقة في إصدار القرارات والأوامر الرئاسية واللوائح (م. 36) وإعلان التعبئة العامة وحالة الحرب (م. 41)، وتوقيع المعاهدات (م. 37)، ومنح العفو الخاص ورد الاعتبار (م. 40)، وتعيين وإعفاء نوابه ووزرائه وسفرائه (م. 35)، مع العلم بأنه لا وجود لرئيس حكومة أو رئيس وزراء.

ـ التعهد بإلغاء المحاكم الاستثنائية أمر حسن، ولكن أين ضمانات استقلال القضاء؟ وكيف يكون مع هذه النصوص: “كل أعضاء المحكمة الدستورية العليا يعينهم رئيس الجمهورية” (م. 47) و”مجلس الدولة هيئة استشارية مستقلة”، وضع خطوطا تحت “استشارية” (م. 45)؟

في تونس صيف 2021، نفذ رئيس الجمهورية المنتخب ديمقراطيا من ثغرة بنص يتعلق بصلاحيات رئيس الدولة إزاء “الخطر الداهم”، وذلك في أكثر الدساتير العربية تقدمية وحداثة (دستور 2014). وأعاد تأويله تعسفيا، كي يهدم ما تحقق من حريات وحقوق وديمقراطية بعد ثورة الياسمين. ومع الحالة السورية اليوم نحن أمام ضوء أخضر من الآن أمام رئيس جمهورية غير منتخب، لإعلان حالة الطوارئ والانقلاب على ما قد يتحقق من حريات وحقوق بدعوى “الخطر الجسيم والحال” (م. 41).

القلق مشروع والخطر محدق، وكأننا أمام وصفة لإفشال الثورات ولحرب أهلية، إذا أضفنا إلى ما سبق أن تعطي سلطة الأمر الواقع بدمشق بنص الإعلان الدستوري قائدها خمس سنوات كاملة للبقاء رئيسا للجمهورية، وبهذه الصلاحيات (م . 52). بل وعندما تقتصر مدة برلمان هذا حاله إنشاء من السلطة التنفيذية وبصلاحيات محدودة على 30 شهرا (م. 26).

لعل الأشقاء السوريين يتخذون الخبرة والعظة من أشقائنا التونسيين، ولطالما قال أول رئيس للدولة بعد الثورة المثقف الدكتور المنصف المرزوقي بخطأ إطالة المرحلة الانتقالية، في تصريحات خلال رئاسته منذ 2013، أي بعد أقل من ثلاثة أعوام من الإطاحة بدكتاتورية بن علي. وقد عاد وكررها متوجها بالنصح للأشقاء السوريين بعد الإطاحة بالأسد، في مقال بموقع “الجزيرة نت” بعنوان “سوريا زهرة الربيع العربي ودروس المرحلة” في 10 ديسمبر 2024.

بحسن أو سوء نية

في سوريا وخارجها من يرى بحسن أو سوء نية أن البلاد خرجت من حكم دكتاتوري فاسد رهيب استغرق نحو ستين عاما محاطة بمخاطر خارجية وداخلية تتطلب “حاكما قويا” يحفظ وحدتها، ويعزز مركزية دمشق، ويمنع تجدد الحرب الأهلية. لكن هل يمنح فتح الأبواب أمام دكتاتورية جديدة الدول والأوطان قوة؟

وهل سارعت سلطة الأمر الواقع، وقد مر عليها أكثر من مئة يوم، بالانضمام إلى اتفاقات دولية تضمن حقوق الإنسان وملاحقة ومعاقبة من يعود للإطاحة بها، كاتفاقية المحكمة الجنائية الدولية؟

ناقش الزميل قطب العربي “في مقال بالجزيرة مباشر” في 12 مارس 2025 بعنوان “معضلة الإسلاميين في الدولة الوطنية” مقولة أنهم غير صالحين لحكمها أو المشاركة في الحكم. وأنا معه في انتقاده للخلط بين الدولة الاستبدادية التي تقصر الحكم على فئة والدولة الوطنية/ دولة كل أبنائها بدون تمييز على أساس الدين أو العرق أو الجنس أو المستوى الاجتماعي أو المذهب والرأي السياسي.

واستأذنه في مد الخط على استقامته، وأضيف أن هذه “الدولة الوطنية”، المنزوعة الوطنية كما تفضل ونبه، هي نتيجة لاحتكار السلطة والثروة.

وأتمنى، وأنا ممن أملوا نجاح الثورات بمصر وتونس وغيرها بمشاركة إسلاميين يؤمنون بالديمقراطية والمواطنة، مصارحة من صفوف الإسلاميين أنفسهم لأولئك الذين يتحدثون ويتصرفون وكأن الشرع/ الجولاني سابقا “فاتح دمشق”، وأصبح من حقه امتلاك العباد والرقاب ومصير البلاد، والحكم بترسانة سلطات وصلاحيات إلى ما شاء الله.

كما أتمنى أن تقود المراجعات والتطورات المقدرة بين الإسلاميين وغيرهم إلى التعلم من عواقب الانزلاق إلى شراكة سلطة وحكم مع القوى المحتكرة التي ثار عليها الشعب والسير بمنهجها ذاته. ولأن العواقب كانت وستبقى كارثية، ليس فقط على من شاركوا اللعبة، ثم جرى طردهم من الملعب بقسوة، بل لأن أفدح الأثمان سيدفعها عموم الناس.

وهذا ما لا نتمناه للشعب السوري.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان