دراما رمضانية مصرية بلا سياسة

دراما رمضانية مصرية بلا سياسة!
في كل التقارير والعروض “والبروموهات” التي انتشرت عن مسلسلات رمضان التي بدأت أمس حالة من الغياب المريب لكل ما يشتبك مع السياسة، وقطيعة تامة لكل ما يعبّر عن هموم المجتمع.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsليلة القبض على الرئيس!
عن أزمة الدراما وغياب الحرية
الإعلام في رمضان.. تنافس على الصائمين وحرب عليهم؟!
اكتفت الدراما بالأكشن والكوميديا والقصص الاجتماعية، على أهميتها ووجود جمهور لها، وابتعدت تمامًا عن السياسة وقضاياها والمجتمع وأزماته.
في تاريخ الدراما المصرية الكثير والكثير مما يمكن أن يُروى عن مسلسلات وأعمال تلفزيونية اشتبكت مع قضايا الحرية والعدل الاجتماعي والفساد السياسي والاقتصادي، قالته بلغة الفن، وتألق معه وعي الناس متابعة واهتمامًا.
ازدهر الفن في مصر على مدى التاريخ الحديث، حتى أصبح صناعة مصرية خالصة، وتفوَّق فيه مبدعو مصر بدرجة كبيرة وبلا منافسة في كثير من الأحيان.
جزء من قوة مصر في إقليمها صنعته قوة ناعمة مبدعة، اجتذبت العقول برشاقة وسحر لا يُنكر.
فجأة ومنذ بضع سنوات، تكرر السؤال: أين اختفت الدراما السياسية ولماذا؟
وهو سؤال يستحق الإجابة.
اختفاء السياسة من الشاشة
خلال السنوات السبع الأخيرة، كان الحصار يتزايد على الإنتاج الإعلامي والفني، قيود تحاصر الدراما وتجبرها على التسليم.
تراكم الخوف الرسمي من هوامش واسعة للحرية أضر كثيرًا بالإبداع.
بتأسيس الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، كانت السلطة في مصر تعلن السيطرة على الإنتاج تمامًا.
خلال سنوات قليلة، أصبحت الشركة هي المنتج الأول -وربما الأوحد- للدراما، ثم كان الاستحواذ على الغالبية العظمى من القنوات التلفزيونية حصارًا جديدًا للمحتوى.
بلغة السوق، فإن المالك يفرض شروطه!
تراجعت الدراما بالمعنى السياسي كما لم يحدث من قبل، واختفى الجدل العام الذي كان يسببه مسلسل مهم يكتبه أسامة أنور عكاشة أو محمد جلال عبد القوي أو محمد صفاء عامر وغيرهم مما صنعوا أعمالًا جادة ومهمة في مسيرة الفن المصري.
بدرجة الركود نفسها التي عانت منها الحياة السياسية في السنوات الأخيرة، لم يعد للمحتوى الدرامي تأثيره في الوعي الجمعي للناس، ولم يعد ممكنًا أن يطرح مسلسل نقدًا سياسيًّا أو يشير بأصابع الفن إلى خلل أو انحراف.
بدواعي الخوف الرسمي من تأثير الفن، كان اختفاء كل الأعمال التي تطرح أسئلة سياسية هو النتيجة المباشرة لما جرى طوال سنوات.
حسب ما نشرته الصحف، فإن موسم الدراما الرمضاني هذا العام سيعرض نحو أربعين مسلسلًا، ليس من بينها مسلسل واحد يتحدث عن الواقع اليومي للناس.
في كل ما حدث منذ عام 2011 حتى الآن، يمكن صنع مئات القصص والأعمال الدرامية ووضعها موضع التنفيذ.
كتابة حية من وحي ما عاشه البلد من عواصف سياسية واجتماعية.
رغم ذلك فإن الاختفاء كان مدهشًا.
هذا خلل يستحق الدراسة، وتطور يستحق التغيير!
الدراما في التاريخ المصري
في دفاتر التاريخ لم تكن السياسة غائبة يومًا عن الدراما المصرية.
منذ عقود، أنتجت السينما والدراما أعمالًا قدَّمت إسقاطات سياسية جريئة على الواقع، غلفتها بحركة الكاميرا وذكاء الحوار والأداء التمثيلي.
في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، تناولت الدراما والسينما قضايا الاشتراكية والتغييرات الاجتماعية والاقتصادية التي حدثت بعد يوليو/تموز 1952، بل وجَّه بعضها نقدًا حادًّا وصريحًا للنظام الناصري ورموزه.
الثمانينيات والتسعينيات شهدت مساحة جيدة من حرية الإبداع، سمحت لأعمال فنية في التلفزيون والسينما أن تنتقد بحدة سلبيات مثل الفساد الإداري والطبقية والقمع السياسي.
“ليالي الحلمية” للكاتب الكبير الراحل أسامة أنور عكاشة كانت تأريخًا فنيًّا بديعًا لتاريخ مصر السياسي عبر أجيال متعاقبة.
بقيام ثورة يناير/كانون الثاني 2011، شهدت الدراما المصرية تنوعًا مذهلًا في الأعمال السياسية التي رصدت التغيرات العاصفة التي مرت بها البلاد، والعوامل التي أدت إلى الانفجار الكبير. “بدون ذكر أسماء” و”السبع وصايا” سلطت الضوء على الثورة، والدولة العميقة، والتفاعلات الاجتماعية التي أنتجتها هذه المرحلة.
مع بداية عام 2016، تراجع هذا الزخم الكبير المحفور في تاريخ مصر الفني، إلى أن اختفت السياسة تقريبًا من المشهد الدرامي في السنوات الأخيرة.
40 مسلسلًا بلا سياسة ولا نقد ولا تعبير عن الواقع!
ما الحل لعودة الدراما لتأثيرها؟
للسياسة جمهورها الكبير في الدراما المصرية.
تاريخ الفن يشهد أن الإنتاج الأكثر جدلًا ونجاحًا في الأعمال الدرامية والسينمائية كان هذا الذي يشتبك مع المجتمع وقضاياه.
صحيح يمكن الرهان على نجاح تجاري تحققه الأعمال الحالية كالموضوعات الاجتماعية والعائلية والأكشن والغموض وغيرها، لكن المؤكد أنها خصم مباشر من قوة الدراما ودورها في نشر الوعي والتنوير الذي مارسته على مدى سنوات.
ثم إنها خصم مؤكد من الدور الفاعل للقوى الناعمة المصرية وتأثيرها، وتقليل غير مطلوب ولا مستحب من ازدهارها وتألقها التاريخي الذي لا يمكن لأحد أن ينكره.
والبداية من حرية الإبداع.
الحصار الكبير الذي تعرضت له السياسة في الدراما والسينما كان يتوازى مع قيود كبيرة مفروضة على المجال العام والحريات الأساسية في المجتمع.
الخوف من الحرية يُضعف المهن الإبداعية ويطرحها أرضًا.
لا يمكن أن تنمو السينما أو الدراما أو الصحافة، ولا يمكن أن يزدهر الفن أو الأدب من دون مساحة حرية كافية تروي ما تبدعه العقول.
بغياب الحريات تراجعت الدراما، وبتراجعها خسرت مصر جزءًا لا يستهان به من مساحة قوتها وتأثيرها في محيطها والإقليم.
القوى الناعمة سلاح يتسرب بهدوء وثبات إلى العقل؛ فيعمق من ثقافة البلد وتأثيره في نفوس الآخرين.
الآن أصبح على الجميع قراءة المشهد الجديد، وتوسيع الهوامش المتاحة لتصبح أكثر استيعابًا للفن والكتابة، وأكثر تعبيرًا عن الناس والهم العام.
بالحرية تسترد الدراما تأثيرها، وتسترد مصر ما فقدته على مدى سنوات من صورتها وتأثيرها الذي يحاول الآخرين السيطرة عليه الآن.
قوة مصر في عقول أبنائها التي تصل إلى الآفاق.
وقد آن الأوان لنسترد هذا الدور بالعقل والفكر والحرية بعيدًا عن الخوف الذي ليس له ما يبرره.