موائد الرحمن في قبضة نظام “لا عشاء مجاني”

انتشرت في الصين ثقافة “الوجبات المجانية”، التي توزعها المطاعم على المحتاجين خاصة بالمدن الكبرى، التي تشهد موجات بطالة وتراجعا بالدخل. تضغط زيادة التكلفة بالسكن والمعيشة بشدة على الشباب والعائلات المهاجرة من الأرياف، ممن أصبحوا غير قادرين على تدبير احتياجاتهم اليومية من الغذاء.
تسبب التباطؤ الاقتصادي في تراجع استهلاك الوجبات السريعة، وطلب الطعام من سلاسل المحال، التي تخشى ابتعاد الجمهور عنها بحثا عن الأكلات الرخيصة بالأماكن الشعبية أو تدبيرهم لوجبات أرخص بالمنازل.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsلعبة السياسة في تركيا.. “غلطة الشاطر بألف”
“لحظة حزينة في عالم السينما”.. إلقاء الحجارة على الأوسكار!
ورطة الجامعة العبرية
اتجهت المطاعم الكبرى إلى تقديم عروض مجانية للجمهور، مقابل شراء عدد من الوجبات، ومنها من وزع “كوبونات” بطاقات مجانية على العملاء، يمكن صرفها لمن يشتهي وجبة طازجة في أي وقت يريده.
تفتق ذهن أصحاب المطاعم الصغيرة بالعاصمة بيجين والمدن الصناعية التي تستقبل أعدادا كبيرة من الوافدين، لتوزيع عدد من الوجبات المجانية يوميا، بمجرد إيماءة من الشخص تكشف عن حاجته إلى الطعام.
بداية، انتشرت الظاهرة بالمحال التي يملكها أشخاص محبو الخير من ذوي الأصول الريفية، ممن كابدوا العيش، حتى حصلوا على فرصة جيدة للعمل، وحياة أخرجتهم من الفقر المدقع، الذي أطبق على الشعب خلال الحقبة الشيوعية منذ عام 1949.
عاصر هؤلاء الفقر وهو يزول تدريجيا في تسعينيات القرن الماضي، ويرون عودة بعض مظاهره، بين جيل ظل يعمل باجتهاد ولم يجن ثمار عمله، وشباب تربوا في عصر ازدهار اقتصادي يقطف ثماره نخبة من الساسة ورجال الأعمال، بينما الطبقة الوسطى تخشى السقوط في حبائل العوز، والفقراء يزدادون فقرا.
“وجبة الفقراء”
تبدلت دوافع المنافسة على تقديم “وجبة مجانية” من زيادة التجارة وتنشيط المبيعات إلى أخرى ممزوجة بالعطف والشفقة على الشباب الذي يعاني 16% منهم البطالة، وعلى كثير من الأسر التي وجدت نفسها غير قادرة على سداد ايجار السكن وتدبير لقمة العيش في آن واحد.
وظف المتنافسون إمكانات وسائل التواصل بالإنترنت للإعلان عن الوجبة المجانية، وأخرى تُسمى “وجبة الفقراء” تباع بسعر ما بين 10-20 يوانا، تُنقل مجانا من سلاسل شركات الأغذية التي انخفضت أرباحها بنسبة 88% خلال عام 2024. تشتهر الوجبات بأطعمتها الشعبية اللذيذة الممزوجة باللحوم والمقبلات التي تجذب الشباب، وتنتشر بالمراكز التجارية المربوطة بشبكات مترو الأنفاق والمباني الإدارية والميادين.
كسرت الوجبة المجانية مبدأ الزعيم ماو زي دنغ مؤسس الحكم الشيوعي، بقولته الشهيرة “لا عشاء مجاني” الملخصة لمثل صيني شائع، يعني أنه لا يوجد شيء دون مقابل، وإن بدا ذلك في بدايته، لأن هناك ثمنا أو تكلفة خفية سيدفعها المرء بنهاية المطاف.
ربما استهدف “ماو” دفع الناس إلى العمل والاجتهاد، وتقديم التضحيات من أجل لقمة العيش، لكن اقتران الشعار بفترات المجاعة التي نتجت عن سياسات التأميم والفشل المتكرر في مواجهة الفقر، بطرق غير مدروسة ومنطقية، مثل حملات قتل العصافير والفئران التي أجبر الشعب على الخروج بها، لمنع تكاثر الطيور وأكل المحاصيل، فأدت إلى تصحر بالمقاطعات التي تعتمد على التوازن البيئي في تكاثر المزروعات.
أكسبت المجاعات شعار “لا شيء مجاني” معاني أخرى لدى العامة، لتعكس طلب الرشى وقرينة للحذر من الصفقات المجانية، خاصة المرتبطة بثقافة دينية، ومنح الآخرين الطعام من أموال الأغنياء، بوصفه حقا معلوما للسائل والمحروم وابن السبيل وغيرهم ممن يجوز التصدق عليهم من أصحاب الحاجات.
شي شي “أهلا بكم”
يبدو أن الشعب الجائع في بداية الحقبة الشيوعية، عاد أخيرا إلى طبيعته الإنسانية مع عودة الاقتصاد إلى نظام السوق وارتفاع مستوى المعيشة.
هذا التغيير بدأ بإعادة ضبط مفهوم التحية التي كان يتبادلها الناس بقولهم “شي شي”، للاطمئنان على ذويهم بحصولهم على وجبة طعام ولو مرة واحدة يوميا، وتعني “هل أنت جائع؟”، ليصبح معناها “أهلا وسهلا” أو “مرحبا بكم”.
الوجبة المجانية التي لم يوفرها النظام الشيوعي لشعبه، كان من العار أن يحصل عليها أي فرد، رغم فخامة الموائد الرسمية التي تقيمها السلطات للضيوف الأجانب، وتتسرب بعضها إلى منازل كبار المسؤولين، وفي المقابل يُحظر على الشعب التعبير عن كرمه أمام ضيوفه، حتى اقترن البخل والحرص بالشخصية الصينية.
في ثقافة الأسر الصينية العريقة، يُعَد البخل وصمة عار على الجبين، فكرم الضيافة من الواجبات التي تعكس مركز العائلة الاجتماعي وثراءها المادي. رأينا الكرم الحاتمي داخل بيوت الصينيين بكل طبقاتهم الغنية والفقيرة، ومستوياتهم المعيشية، فكلهم كرماء. الفرق يظهر مع عدد الأطباق وكميات اللحوم والأسماك ونوعية الفرش والآنية. لا يحلو لكل منهم عقد الصفقات أو الحديث مع الأصدقاء والضيوف إلا على موائد الطعام التي تستمر ساعات، قبل أن تنفض إلى مائدة أخرى لتناول الشاي والمشروبات.
يتندر الصينيون على مبدأ “ماو”، لا عشاء مجاني، ولم ينقلبوا عليه، لأنه يرتبط بمفهوم ثقافة كونفوشيوسية متجذرة في المجتمع، تطالب الناس بالتخطيط للمستقبل والادخار للغد، خشية “الأيام الممطرة” وعواقب الإسراف. شجعت المجاعات والاضطرابات الاقتصادية الناس على تبنّي سلوكيات توفير المال، وتجنب التبذير، دون المساس بحقوق الضيافة، لكن النظام الشيوعي كرس فيهم حب الادخار خشية الفقر، بما أثّر في حجم مبيعات المصانع والمحال، معمقا الركود الاقتصادي. أصبح الفرد الصيني الأعلى عالميا، بمعدلات ادخار تمثل ما بين 30%-40% من دخله سنويا، بما يمثل 4 أضعاف المواطن الأمريكي، الذي يبلغ راتبه 6 أضعاف الفرد الصيني.
فالدولة التي تدير ثاني أكبر اقتصاد، وترفع شعار دولة الرفاه الاشتراكي، تعمق الخوف من الإنفاق في الخير، وتضع نظاما تأمينيا لم يحقق العدالة بين العاملين بالدولة والقطاع الخاص، ولا يضمن الحد الأدنى لتكاليف المعيشة، التي تختلف بشدة من مدينة إلى أخرى، ولا توفر نظام رعاية صحية يرقى إلى المستوى المطبَّق بالدول الأوروبية أو المتوسطة الدخل، يحمي الناس من أمراض الشيخوخة، في دولة يقترب عدد المحالين إلى التقاعد من 400 مليون نسمة خلال سنوات قليلة، ويقل بها عدد المواليد، بينما تزيد الأعباء المعيشية على كبار السن، وتضغط على الشباب الذين يتحملون مسؤولية أسرهم والآباء والأجداد في آن واحد.
ولائم محرَّمة بالمنازل والمساجد
عادة ما تثير الهدايا والوجبات المجانية، التي تقدمها المحال الشهيرة للعملاء، ريبة الصينيين من تلاعب الباعة بجودة السلع أو المبالغة في قيمة الخدمة، لكن اللافت أن الأطعمة المجانية التي يُقبل عليها الفقراء، تثير مخاوف شديدة لدى السلطة، التي تضع شروطا على المتعاملين عليها. يضع الحزب الشيوعي قيودا أشد قسوة على الجهات التي توزع الأطعمة مجانا بدواعي التكافل الإنساني والديني، فينظر إليها على أنها تعبير ديني، وممارسة علنية لأعمال خارج سيطرة الدولة.
تحظر السلطات على المسلمين تنظيم “موائد الرحمن”، وتمنعها في كل المساجد إلا المحدَّدة لها ممارسة بعض الأنشطة الدينية، تحت سلطة مباشرة من الحزب الشيوعي الحاكم. تشتد القيود في المناطق التي يسودها المسلمون مثل شينجيانغ “تركستان الشرقية” وقانسو حيث تواصل سياسات القمع ضد الإيغور والقبائل ذات الجذور التركية، بل تحظر على العائلات إقامة الولائم في شهر رمضان. تلاحق السلطة من ينظمون الولائم داخل منازلهم لأسباب دينية، سواء أكانوا مسلمين أم مسيحيين أم بوذيين. يريد المتدينون إطعام الفقراء تقرّبا إلى الله، بينما السلطة الشيوعية ما زالت على قناعة بأنه “لا شي مجاني”.