هل نقرأ الأدب لنحطم الخرافات العنصرية الغربية وننتصر على الاستعمار الثقافي؟!

الثورة الفرنسية (مواقع التواصل)

 

أتمنى أن يقرأ المثقفون العرب المنبهرون بالغرب روايات الكاتب الإنجليزي تشارلز ديكنز، ليعيدوا بناء تصورهم عن الغرب، ويدركوا الكثير من الحقائق التي تسهم في توعية الشعوب، وتحطيم الخرافات العنصرية التي عمل الغرب لترويجها، واستخدامها في فرض الاستعمار الثقافي.

بين الصحافة والأدب

ولكن لماذا تشارلز ديكنز؟! ركزت في شبابي على قراءة الأدب الإنجليزي، وعملت لتطوير قدراتي في نقد هذا الأدب، بهدف أن أصبح محررا وناقدا أدبيا، طبقا لنصيحة أستاذي خليل صابات التي ندمت كثيرا لأنني لم أطبقها.

وجذب انتباهي تشارلز ديكنز (1812-1870) ليس بسبب ما حققه من شهرة، حيث أصبح من أهم الأدباء الإنجليز، ولكن لأنني أردت أن أدرس العلاقة بين الصحافة والأدب، ودور الصحافة في فتح المجال لظهور جيل جديد من الأدباء يمكن أن يقوموا بدور مهم في رواية قصة شعوبهم، فالقصص من أهم العناصر التي يمكن استخدامها في بناء القوة الناعمة للدول.

الواقعية النقدية والصحافة

وكان ديكنز صحفيا وفّر له العمل الصحفي الفرصة لوصف الواقع، واكتشاف الكثير من التجارب الإنسانية التي أسهمت في تشكيل مسار جديد في الرواية هو “الواقعية النقدية”، حيث عمل مراسلا لصحف محلية، وكان يقوم بتغطية المناقشات البرلمانية، وأثار ذلك خيالي عندما عملت محررا برلمانيا لجريدة الشعب خلال الفترة (1979–1981)، وكتبت الكثير من التحقيقات عن الأحياء الشعبية الفقيرة، مما أعطى الانطباع بأنني أعيد تجربة “رعاياك يا مولانا” في جريدة الاشتراكية عام 1951.

لم أكن أتطلع لتكرار تجربة ديكنز أو أحمد حسين في جريدة الاشتراكية، فأنا أرفض التقليد، وأبحث لنفسي عن طريق جديد، لكنني كنت أحاول الاستفادة من التجارب المختلفة، ولذلك قرأت روايات ديكنز المترجمة إلى اللغة العربية، كما قرأتها باللغة الإنجليزية، وحاولت أن أدرس أسلوبه المتميز في السرد الروائي، ووصف الواقع، وابتكار الشخصيات والربط بينها وتطويرها، وكيف قام بتجسير الفجوة بين الأدب والصحافة.

لذلك حققت الكثير من روايات ديكنز مكانة أدبية مهمة، وشكلت أساسا لتطوير الكثير من الأعمال الدرامية، ومن أهمها “أوليفر تويست” و”معركة الحياة” و”أوقات عصيبة”.

قصة مدينتين وحقيقة الحياة في الغرب

لكنني أعتقد أن “قصة مدينتين” أهم روايات ديكنز، التي يمكن أن توفر لنا صورة حقيقية للحياة في الغرب قبل الثورة الفرنسية التي دفعت الكثير من المثقفين العرب للانبهار بالغرب، وهي بالفعل تشكل بداية مرحلة جديدة في تاريخ العالم، حيث انطلقت بعدها فرنسا للسيطرة على الكثير من الدول، وأعتقد أنه من الضروري أن نشجع جيلا جديدا من الباحثين على دراسة تلك الثورة، وعلى اكتشاف الحقائق لبناء وعي شعوبنا وتحريرها من الاستعمار الثقافي.

كما أن قصة مدينتين تقدم لنا الكثير من الحقائق عن أحداث تلك الثورة، وتوضح أنها لم تكن كما حاولت فرنسا أن تقدمها للعالم، وتستخدمها في الترويج لمشروع التنوير الأوروبي، وفي خداع الجماهير لتكريس فكرة دور الرجل الأبيض في تمدين البشرية، وتبرير الاستعمار.

الحياة سيئة في فرنسا وإنجلترا أيضا!

يبدأ ديكنز روايته بتصوير الحياة في باريس ولندن عام 1775 بقوله: “كانت الحياة في باريس لا تزداد إلا سوءا، وإن هذه الأنعام البائسة لا تجد في أفواهها إلا الطعم المرير، ولا تحيا إلا الحياة الشقية البائسة، ولم تكن الحياة في إنجلترا أقل سوء من فرنسا”.

والطبقة الأرستقراطية تستأثر بكل متع الحياة، وتمتلك كل شيء، وتمارس كل أشكال القهر ضد شعوب جائعة فقدت الأمل، واستسلمت لبؤسها.

أما الظلم فقد أبدع تشارلز ديكنز في تصويره في إنجلترا وفرنسا، فجزاء خيانة الملك في إنجلترا هو الإعدام بطريقة بشعة، حيث يتم تقطيع الذي يخون الملك إلى أربعة أجزاء.

سوف يجدون المتهم مذنبا

يبدع ديكنز في تصوير إجراءات المحاكمات الغريبة، حيث يقول النائب العام: “إن المحلفين موالون للتاج، لذلك لا بد أن يجدوا المتهم مذنبا، ويزهقوا روحه”، وأضاف: إنه يعتقد أن المحلفين اعتبروا المتهم منذ الآن قد مات، وفارق العالم.

وكان النائب العام يحاول استغلال المخاوف الوطنية، ويصف الشاهد الكاذب بأنه مواطن شريف!!

وهكذا يتم تلفيق القضايا واعتقال الأبرياء وتكديسهم في السجون، ولكي يحصل المدعي العام والقضاة والمحلفون على المكاسب، والحياة المرفهة، ويثبتوا ولاءهم للسلطة يمارسون التزييف والانتقام والظلم.

والظلم في فرنسا أكثر قسوة!

أما في فرنسا، فالظلم أكثر قسوة وبشاعة، حيث يقضي الطبيب مانيت عشرين عاما من حياته في سجن الباستيل الرهيب في زنزانة انفرادية معتمة، لأنه قرر أن يكتب للوزير مذكرة عن جريمة ارتكبتها أسرة أرستقراطية، فيفقد الطبيب الذاكرة، حتى تأتي ابنته لوسي، فتعيد الحياة بالحب لهذا الإنسان الذي دمر السجن نفسيته، وأفقده الرغبة في الحياة، لذلك يعتبر ديكنز السجن موتا.

تشتعل الثورة الفرنسية، فيقتحم الثوار سجن الباستيل، ويعدّ تدمير هذا السجن الرهيب، وتحرير السجناء منه أهم إنجازات الثورة الفرنسية، وأهم ما يفتخر به شعب فرنسا.

يتناقض مع الواقعية النقدية

وينهي ديكنز روايته بطريقة تتناقض مع اتجاهه الواقعي النقدي، وتتفق مع الاتجاه الرومانسي، بتصوير تضحية المحامي الإنجليزي بنفسه من أجل الحب، وكان ذلك يشكل وسيلة للإثارة، وجذب تعاطف القراء، لكن تظل الحقيقة التي تكشفها الرواية، وهي أن هناك الكثير من أشكال الظلم في الغرب حولت حياة الناس إلى شقاء وبؤس، والظلم هو الطريق لانهيار الدول، وسوف يروي السجناء يوما قصصهم، لذلك يمكن أن تفخر الكثير من الشعوب بتدمير سجونها وتحرير السجناء، ولكن من يكتب القصص؟!

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان