حرب غزة 2: الاستمرارية والتغيير على هامش التصعيد الإسرائيلي الأخير

على الرغم من تركيز جزء كبير من الاهتمام فيما يتعلق بالتصعيد الإسرائيلي الأخير في قطاع غزة، الذي بدأ في 18 مارس الجاري (2025)، على تناول الأسباب التي دفعت إسرائيل، وبشكل خاص رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، للعودة إلى الحرب، توجد العديد من النقاط التي يمكن طرحها والتي ترتبط بدورها بالسيناريوهات المحتملة، وقدرة نتنياهو على تحقيق الأهداف المعلنة والمتصورة، وبشكل التصعيد وفرص تطوره وما يحمله من مخاطر وتهديدات في مشهد شديد التعقيد.
بدوره يرتبط جزء أساسي من المشهد بطبيعة اللحظة الفارقة التي تقف فيها الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، والتي تقف في تقاطع طرق بين التصعيد المحدود القائم والحرب المفتوحة المحتملة، وما بينهما من سيناريوهات قد لا تتضح كافة تفاصيلها في اللحظة، ولكن من المؤكد أنها سوف تؤدي إلى المزيد من الخسائر البشرية، والمعاناة الإنسانية، وترتبط بالمزيد من الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي والاتفاقيات الموقعة القديم منها والجديد.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsمناجم الملح في سيوة.. كنز أبيض وسط الرمال
الحويني نسيج وحده 3/2 «أبو إسحاق الحويني في ميزان الشيخ كشك»
كشف المستور في “أزمة زيزو”
يطرح المشهد بتعقيداته المختلفة تساؤلات أكثر تعقيدا عن التطورات المحتملة على صعيد الحرب القائمة والتي يمكن التعامل معها بوصفها مرحلة جديدة في حرب غزة الخامسة التي بدأت بعد أحداث السابع من أكتوبر 2023 “طوفان الأقصى”، أو حرب غزة الخامسة-2 (حرب غزة 2 اختصارا). طرح من شأنه إثارة تساؤلات مهمة حول الاستمرارية والتغيير في مشهد الحرب ما قبل الهدنة التي بدأت في التاسع عشر من يناير الفائت (2025)، والتصعيد الذي بدأ في الساعات المبكرة من صباح ١٨ مارس الجاري.
في هذا السياق، يمكن الإشارة إلى مجموعة من المحاور على صعيد تفكيك المشهد بين المرحلة الأولى من حرب غزة الخامسة، المرحلة السابقة على الهدنة الأخيرة، والمرحلة الثانية التي أنهت تلك الهدنة من قبل إسرائيل، رغم جهود الوسطاء للعودة إلى وقف إطلاق النار. مرحلة تحمل العديد من المخاطر خاصة في حال تطور المشهد الحالي إلى حرب مفتوحة من شأنها أن تكون، وفقا للعديد من العوامل والاعتبارات الموضوعية، أشد عنفا من الحرب في مرحلتها الأولى، خاصة في ظل التغييرات التي حدثت في مشهد وواقع الحرب ما قبل وما بعد هدنة يناير 2025، وما يحمله المشهد من عوامل استمرارية وتغيير تساهم بدورها في تعظيم المخاطر والتهديدات أو طرح فرص محدودة يمكن البناء عليها في مواجهة تلك المخاطر.
إسرائيل والعودة إلى البدايات: تناقض التهديدات والواقع
جاء خطاب نتنياهو حول التصعيد الأخير في غزة بمثابة تكرار لما أشار إليه خلال المرحلة الأولى من حرب غزة الخامسة، وتحديدا الحديث عن الهجمات التي حدثت، وما صاحبها من ضحايا خلال فترة زمنية محدودة، بوصفها بداية لن تكون كما قبلها.
ساهم حديث نتنياهو مع حرب غزة 2 عن البداية الجديدة غير المسبوقة، والنصر المطلق، والتركيز على الأهداف الأولى للحرب، وخاصة القضاء على حركة حماس والتأكد من عدم تكرار السابع من أكتوبر واستعادة الأسرى عبر القوة والمزيد من القوة، بمثابة تكرار خارج السياق وبعيد عن الواقع لما تم تكراره على مدار حرب استمرت لما يزيد عن ١٨ شهرا دون تحقيق تلك الأهداف.
يضاف إلى ذلك تأكيد العديد من التحليلات الإسرائيلية منذ بداية الحرب، وبشكل متزايد خلال تطوراتها المختلفة، على صعوبة تحقيق أهداف الحرب المتناقضة بطبيعتها، حيث لا يمكن التوفيق بين توظيف المزيد من القوة وضمان الحفاظ على الأسرى والرهائن، كما فشلت القوة والمزيد منها في القضاء على حماس رغم عمليات الاغتيال والخسائر البشرية والمادية غير المسبوقة في القطاع.
يدعم ما سبق في الخطاب الإسرائيلي المعارض للحرب وقائع التطورات التي تم من خلالها استعادة معظم الأسرى والرهائن (المخطوفون في الخطاب الإسرائيلي)، عبر صفقات تبادل خلال الهدن التي عقدت بين نوفمبر 2023 ويناير 2025، مقابل خيار القوة العسكرية الذي تسبب في قتل عدد من الأسرى والرهائن يصل وفقا لصحيفة هآرتس الإسرائيلية إلى 41 من بين 251 أسيرا ورهينة في القطاع (بنسبة ١٦ بالمئة تقريبا)، وهو الخطاب الذي عبرت عنه العديد من تصريحات قوى المعارضة وعائلات الأسرى والرهائن التي وقفت ضد التصعيد الجديد على خلفية دور تصعيد مماثل في تهديد حياة “المخطوفين” في القطاع.
من جانب آخر، تعيد التهديدات الإسرائيلية على هامش حرب غزة 2، بكل ما تضمنته من تهديدات بقطع الاحتياجات الأساسية عن السكان، ما شهدته المرحلة الأولى من تهديدات ووقائع تضمنت قطع الكهرباء والمياه والغذاء والكهرباء، واستخدام سلاح التجويع، ومظاهر العقاب الجماعي للسكان مرة أخرى إلى الواجهة. كما تعيد في نفس الوقت الحديث عن توفر نية الإبادة الجماعية في الخطاب الإسرائيلي الرسمي كما حدث في المرحلة الأولى وظهر واضحا في محكمة العدل الدولية التي تستمر هي وغيرها من المحاكم والآليات مطروحة فيما يتعلق بضرورة المحاسبة والتحقق من عدم الإفلات من العقاب.
بدورها، وفي ظل ما شهدته هدنة يناير من جدل حول أوضاع الأسرى والرهائن في القطاع، والأوضاع المعيشية، والضغوط التي فرضتها العمليات الإسرائيلية المستمرة في القطاع، تجاوزت عائلات الأسرى والرهائن في حرب غزة ٢ رفض العودة إلى التصعيد العسكري فقط، وأكدت على رفض العقاب الإنساني عبر قطع المياه وغيرها من الخدمات التي وردت ضمن التهديدات التي طرحت إسرائيليا، بوصفها تضر في النهاية بواقع الأسرى والرهائن في القطاع الذي تضرر بدرجة غير مسبوقة بفعل الهجمات الإسرائيلية، وبدرجة تزيد كثيرا عن المرحلة الأولى من الحرب بفعل حجم التدمير الذي حدث بين المرحلتين.
بدورها، تفرض تلك الحقائق تساؤلات أخرى حول قدرة المجتمع الفلسطيني في قطاع غزة على الصمود في ظل طول أمد الحرب والمعاناة، وعدم التزام إسرائيل بإدخال المساعدات والمنازل المتنقلة والوقود الذي اتفق عليه خلال المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار الذي بدأ في يناير الفائت، تزداد المعاناة مع استمرار الحرب منذ أكتوبر 2023، وحجم التدمير الذي لحق بالمنازل والبنية التحتية والمستشفيات والمدارس وغيرها من أماكن الإيواء التي كانت متاحة في بداية المرحلة الأولى من الحرب فإن التدمير الذي شهده القطاع،والذي يتجاوز وفقا للعديد من التقديرات 80-90 بالمئة من البنية التحتية والمباني، وعدد الوفيات والإصابات، وتقييد سفر الجرحى والمرضى للعلاج خارج القطاع، واستمرار تقييد فرص دخول المساعدات الإنسانية، وغيرها.
تساهم تلك الأوضاع في تراجع القدرة على الصمود، وهو الأمر الذي تتزايد مخاطره في حالة استمرار حرب غزة 2 في إطار التصعيد المقيد أو انتقالها إلى حرب مفتوحة من شأنها التسبب في زيادة الخسائر البشرية والمادية مع استمرار التراجع في عوامل الصمود الضرورية.
خطاب الحرب: السردية الإسرائيلية بين مرحلتين
تمتعت إسرائيل إلى درجة كبيرة في المرحلة الأولى من الحرب بحالة من الدعم والتوحد الداخلي، بالإضافة إلى دعم كبير في الدول الغربية. ارتبط هذا الوضع بدوره بجملة من الاعتبارات أبرزها طبيعة الحدث الذي تم التعامل معه إسرائيليا في مرحلة مبكرة بوصفه تهديد وجودي يتجاوز تهديد دولة إسرائيل واليهود في الدولة اليهودية الوحيدة في العالم، إلى تهديد الحضارة والقيم الغربية والصراع بين النور والظلام.
ومن الربط بين السابع من أكتوبر والهولوكوست من جانب، وبينه وبين العنف الذي ارتبط بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من جانب آخر، قدمت تل أبيب صورة ممتدة للتهديدات من الداخلي إلى العالمي بكل ما حمله وضع مماثل من محاولة توليد المخاوف من جانب، والحصول على الدعم والتأييد لما تتخذه من سياسات من جانب آخر، خاصة على المستوى الداخلي وعلى مستوى الدول الغربية الداعمة وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية.
تميزت حرب غزة في المرحلة الأولى بأنها حرب انتقامية تمت على أساس السردية السابقة مع نزع الإنسانية عن كل فلسطيني في القطاع. وساهم الحدث والسردية المستخدمة في تجاوز المجتمع الإسرائيلي لمرحلة سابقة من الانقسامات والاختلافات التي بدأت بعد تشكيل حكومة نتنياهو السادسة في ديسمبر 2022، وما ارتبط بها من سياسات وخاصة التعديلات القضائية التي تم الإعلان عنها في يناير 2023. مع التركيز على تهديدات السابع من أكتوبر الوجودية، توحدت المعارضة والمجتمع لدرجة كبيرة خلف الحكومة من أجل تحقيق أهداف الحرب. كما ركز الدعم الغربي على حق تل أبيب في الدفاع عن النفس، وتم توظيف سردية الإرهاب والديمقراطية الغربية المهددة من أجل تمرير الحرب والدعم الرسمي لإسرائيل رغم الرفض الشعبي الذي تزايد خلال الحرب.
ارتبط كل ما سبق بالحديث عن أهداف إسرائيل الرسمية من الحرب التي تمثلت بدورها في القضاء على حماس والتأكد من عدم تكرار السابع من أكتوبر، وعدم حدوث تهديد مماثل من قطاع غزة في المستقبل، مع استعادة الأسرى والرهائن. ورغم التغيير والتعديل الذي حدث في أهداف الحرب الأساسية عبر الوقت، بما يخدم أجندة نتنياهو السياسية ويتناسب مع التطورات، فإن سياق الحرب والهدن التي تم التوصل إليها ما بين 2023 و2025 يختلف عن سياق التصعيد الذي حدث في حرب غزة ٢، مارس 2025، وما يرتبه وضع مماثل من تساؤلات حول مستقبل هذا التصعيد، ولعل أبرز نقاط الاختلاف تبدأ من المستوى الإسرائيلي الداخلي.
ترك المجتمع الإسرائيلي انقسام ما قبل السابع من أكتوبر 2023 من أجل التماسك في مواجهة التهديدات التي طرحت على هامش “طوفان الأقصى” و”التهديدات” التي طرحت في الخطاب الرسمي حول تهديد وجود الدولة والشعب الإسرائيلي، وبالتالي حظي نتنياهو بفترة من التأييد التي تراجعت تاليا. بالمقابل، جاء التصعيد في حرب غزة ٢ على خلفية احتجاجات متصاعدة من عائلات الأسرى والرهائن، وقوى المعارضة، وأفراد من جنود الاحتياط الرافضين للعودة للحرب في غزة بوصفها حرب سياسية بدون أجندة عسكرية.
في نفس الوقت، تشابكت خطابات رفض الحرب للحفاظ على حياة الأسرى والرهائن الأحياء، مع الاحتجاجات على قرار نتنياهو إقالة رونين بار رئيس جهاز الأمن العام “الشاباك”، والحديث عن خطوات مماثلة من أجل إقالة غالي بهاراف-ميارا المدعية العامة للحكومة، بالإضافة إلى عودة إيتمار بن غفير رئيس حزب “العظمة اليهودية” اليميني المتطرف إلى وزارة الأمن القومي، وغيرها من التطورات التي تفسر اتهام نتنياهو داخليا بالتوجه إلى الحرب من أجل اعتبارات سياسية وشخصية، والتضحية بالأسرى والرهائن من أجل بن غفير والائتلاف اليميني المتطرف الحاكم.
مواقف ترتبط بدورها بالجدل حول الأسباب التي تقف خلف التصعيد الأخير وحدود الشخصي والسياسي في قرار نتنياهو الذي يعيد المشهد إلى أجواء ما قبل السابع من أكتوبر، ويختلق حرب جديدة داخل مشهد التهدئة من أجل تحقيق تلك الأهداف المباشرة وغيرها من الأسباب التي ترتبط بالأجندة السياسية للائتلاف الحاكم.
من جانب آخر، وفي حين ركزت إسرائيل بدرجة كبيرة في المرحلة الأولى على التهديدات المباشرة للمجتمع والدولة، فإن المرحلة الثانية تأتي ضمن خطاب أوسع له طابع إقليمي ظهر واضحا ضمن سياق اغتيال حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله في سبتمبر الفائت (2024) وحديث نتنياهو عن جهود إسرائيل من أجل تأسيس نظام جديد في الشرق الأوسط، وكل ما تلي ذلك من تحركات في لبنان وسوريا بعد سقوط الرئيس الأسبق بشار الأسد.
وبهذا، في حين تشير التطورات السابقة إلى تغيير الخطاب من التركيز في المرحلة الأولى من الحرب على المواطن الإسرائيلي وأمنه واستعادة الأسرى والرهائن، يتم التركيز في مرحلة حرب غزة 2 على توسيع الحرب وتحويل استمرار الحرب على جبهات متعددة إلى إنجاز، ومحاولة تغيير الشرق الأوسط إلى هدف، وديمومة الحرب إلى وسيلة.
الطريق إلى التهجير: مسار ممتد من التسريب إلى التأسيس
تحول الحديث عن تهجير الفلسطينيين من القطاع من تسريبات وأحاديث غير رسمية بالضرورة خلال الفترة الأولى من الحرب، إلى مشروع وتصريحات رسمية حول التهجير “الإنساني” القادر على حماية المدنيين، وإغلاق دائرة العنف، وكأنه صورة أخرى من سلام القوة القائم على التخلص من المشكلة أو في الحالة الفلسطينية تصفية القضية وتهجير السكان بدلا من التسوية السياسية وإعلان الدولة الفلسطينية المستقلة وضمان الحق الإنساني والسياسي للفلسطيني في حياة آمنة في وطنه.
تأتي حرب غزة 2 وفي الخلفية حديث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن أفكاره الخاصة بتهجير الفلسطينيين دون عودة، وتحويل قطاع غزة إلى “ريفييرا الشرق الأوسط”، بكل ما أحاط بالفكرة منذ طرحها خلال زيارة نتنياهو إلى واشنطن في ٤ فبراير الفائت (2025) من جدل وتعديلات. تطورات يزيد من مخاطرها حقيقة إنشاء إدارة خاصة بالتهجير في وزارة الدفاع الإسرائيلية، والإعلان عن وجود خطط وتحركات من أجل آليات تنفيذ هذا المخطط، والدول المقترحة أو المحتملة، والمدد الزمنية المتصورة من أجل تنفيذ هدف مماثل، وتعامل اليمين الإسرائيلي المتطرف مع الفكرة بوصفها الهدف الواجب تحقيقه والحل الوحيد للقضية الفلسطينية وخطة ترامب الواجبة التنفيذ.
يضاف إلى ما سبق، خطاب وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس الموجه لسكان القطاع خلال حرب غزة 2، في 19مارس الجاري، والذي تحدث فيه عن قرب “إجلاء الفلسطينيين من مناطق القتال”، وإمكانية توفير خيارات أخرى لسكان القطاع بما فيها “المغادرة إلى أماكن أخرى في العالم لمن يرغب”، ما يطرح حرب غزة 2 بوصفها نقطة انتقال محتملة بين حرب انتقامية عنوانها التدمير، وحرب أشد قسوة عنوانها التهجير القسري أو “الطوعي” عبر القوة وتحويل غزة بشكل أكبر إلى مكان غير قابل للحياة.
في ظل تلك الأفكار وما ارتبط بها من حراك إسرائيلي من أجل مأسسة فكرة التهجير والعمل على تقديمه بوصفه مجرد هجرة طوعية للبحث عن حياة أفضل، كما يحاول الخطاب الإسرائيلي التأكيد منذ الإعلان عن إدارة التهجير رغم أنها تتبع وزارة الدفاع، فرضت التطورات واقع جديد للتعامل الإقليمي تحرك فيه التهجير إلى مخططات على الأرض واستهداف واضح للقضية الفلسطينية والدول الإقليمية المعنية خاصة مصر والأردن.
ساهمت تلك التطورات في تحركات مختلفة على مستوى الإقليم والعالم، وهي التحركات التي أكدت على رفض التهجير أو تصفية القضية الفلسطينية. وتمثلت أبرز تلك التحركات في القمة العربية الطارئة التي عقدت في القاهرة في 4 مارس الجاري من أجل طرح الخطة المصرية للتعافي المبكر وإعادة الإعمار، وهي الخطة التي تستمر مصر في جهود ترسيخها من خلال الحراك الدبلوماسي، وجهود عقد مؤتمر الإعمار المخطط في أبريل 2025، والعودة إلى التهدئة عبر وقف إطلاق النار، وغيرها من التحركات على الصعيد الفلسطيني والعربي والدولي من أجل التأكد من التزامن بين مشروع المساعدة الإنسانية والإعمار من جانب، وبقاء الفلسطينيين في القطاع من جانب آخر، مع العمل على التوصل إلى الدولة الفلسطينية المستقلة بوصفه التحدي الأكثر أهمية في المشهد الحالي.
التغيرات على المستوى الإقليمي والدولي
شهد الإقليم العديد من التغيرات ما بين المرحلة الأولى من حرب غزة الخامسة والمرحلة الثانية سواء على صعيد محور المقاومة وجبهات الإسناد، أو على صعيد المواقف الرسمية التي دخلت مرحلة مختلفة من التعامل مع التهديدات التي فرضتها التغيرات على صعيد غزة، وتصورات المستقبل التي طرحها الرئيس الأمريكي ترامب وما صاحبها من تحركات إسرائيلية.
وفي حين ارتبطت المرحلة الأولى من الحرب، وحتى قبل دخول مرحلة التهدئة، بدور واضح لجبهات الإسناد المختلفة، مع اختلاف تقييم تأثير وفاعلية هذا الدور، فإن المرحلة الثانية بدأت وسط مشهد مختلف استمرت فيه جبهة اليمن بوصفها جبهة الإسناد الوحيدة القائمة في اللحظة، بغض النظر عن فاعليتها وتأثيرها، وخاصة مع تصاعد الاستهداف الأمريكي للجبهة اليمنية.
من جانب آخر، وعلى الرغم من الدعم الأمريكي الذي حصلت عليه إسرائيل خلال المرحلة الأولى من الحرب، فإن فوز دونالد ترامب مثل خطوة إضافية في دعم تل أبيب دون قيود. وبعيدا عن مواقف إدارة ترامب على صعيد تخفيف القيود التي فرضت خلال إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جو بايدن على أنواع محددة من الأسلحة، أو على عدد من المستوطنين، يمكن القول إن أبرز ما ساهم به ترامب حتى اللحظة تمثل في تقديم أفكار واتخاذ مواقف تتسق مع أفكار اليمين الإسرائيلي المتطرف في الائتلاف الحاكم ما يساهم في إعطاء المزيد من الزخم لمواقف نتنياهو وائتلافه اليميني.
أفكار ظهرت بشكل واضح في الحديث عن سلام القوة الذي يتناقض بدوره مع السلام العادل والمستدام، وتهجير سكان قطاع غزة والسيطرة الأمريكية على القطاع بكل ما ارتبط بتلك الأفكار من ساحة جديدة للجدل والاختلاف وزخم لفكرة الترانسفير الإسرائيلية. ساحة ساهمت في تفريغ الجهد لتناول التهديدات والمخاطر الملحة والتعامل مع قضايا جديدة لم تكن مطروحة قبل ترامب، بالإضافة إلى تصعيد خطاب إسرائيل عن القوة والمزيد من القوة إلى “الجحيم” الذي تجاوز استهداف حماس إلى سكان القطاع، وتجاوز حديث الإدارة الأمريكية إلى حديث المسئولين الإسرائيليين حيث تحول الوعد بالجحيم إلى جزء من الخطاب السياسي الدائر فيما يتعلق بالتعامل مع قطاع غزة بشكل خاص، و”أعداء” إسرائيل بشكل عام.
وفي حين ظهرت تلك الأفكار الأمريكية الجديدة في مرحلة التهدئة التي تم التوصل إليها في نهاية فترة بايدن، فإنها قدمت الخلفية التي يتم في إطارها التصعيد الراهن في حرب غزة 2 وما يحمله من سيناريوهات، خاصة في حالة الانتقال من مرحلة التصعيد المقيد الذي تقدمه إسرائيل بوصفه وسيلة للضغط على حماس، ضمن أهداف أخرى رسمية او متصورة، إلى التصعيد المفتوح.
لم يتوقف الاختلاف عند حدود الموقف الداخلي والأمريكي ولكنه ظهر واضحا في العديد من الدول الغربية التي كان عليها ان تواجه انتقادات متزايدة على خلفية عدم اتخاذ مواقف تتناسب مع ما شهده قطاع غزة من انتهاكات إسرائيلية للقانون الدولي والقانون الإنساني الدولي منذ بداية الحرب. بالإضافة إلى الحراك الشعبي المعارض للحرب والاستمرار في تسليح إسرائيل عبر العديد من تلك الدول، والتحركات القانونية المستمرة على صعيد محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية ومؤسسة هند رجب وغيرها من الجهود التي تستهدف محاسبة إسرائيل على الانتهاكات القانونية بما فيها استخدام سلاح التجويع، والتدمير من أجل تحويل القطاع إلى مناطق غير صالحة للسكن وغيرها من الاعتبارات التي ساهمت في تغيير المشهد إلى حد كبير بين الحرب في مرحلتها الأولى وفي مرحلتها الثانية.
تساهم تلك التطورات بدورها في فرض ضغوط على الدول الغربية خاصة الملتزمة بالمسار السياسي والدولة الفلسطينية المستقلة، ما ساهم في تغير في مواقف العديد من تلك الدول نحو انتقاد الصعيد الإسرائيلي، وخطاب التهجير، والتأكيد على الدولة الفلسطينية بوصفها الحل المقبول والمعترف به دوليا للقضية الفلسطينية.
يقدم سيناريو الانتقال من التصعيد المقيد والمحسوب مرحليا، رغم رد حماس عبر رشقة صاروخية استهدفت تل أبيب في ٢٠ مارس الجاري، إلى التصعيد المفتوح فرصة للتهديدات الإسرائيلية، ومحاولة تحقيق هدف اليمين المتطرف المتمثل في تهجير المواطنين قسريا. كما يساهم في زيادة المعاناة والخسائر الإنسانية، وإعلاء خيار القوة وتصفية القضية الفلسطينية على حساب المسار السياسي.
بالمقابل، من شأن التطورات السابقة على التصعيد الأخير، وحجم الخسائر البشرية والانتهاكات المتصورة في ظل التصعيد، فرض المزيد من الضغوط الشعبية وإثارة جدل أكثر عمقا عن صورة العالم ما بين حكم القوة وحكم القانون، وبين السلام العادل والسلام القائم على قمع الضحية، وهي أوضاع تتطلب الكثير من التحركات من قبل الأطراف الإقليمية والدولية.
الخلاصة:
تقف غزة وفكرة الحرب الإسرائيلية على القطاع في مفترق طرق مع التصعيد الإسرائيلي الذي بدأ في 18 مارس 2025 والذي يؤسس لمشهد مختلف للحرب التي بدأت في أكتوبر 2023 مدشنا مرحلة جديدة هي حرب غزة الخامسة- 2. وفي ظل عوامل الاستمرارية والتغيير التي بدأت في إطارها حرب غزة ٢، فإنها تعبر عن تقاطع طرق قد ينتهي بالعودة إلى التهدئة، أو ينتقل إلى المزيد من التصعيد، خاصة في ظل السياسات الإسرائيلية اليمينية المتطرفة. في هذا التقاطع يبرز أهمية تكثيف جهود وقف الحرب من قبل الأطراف القادرة على التعامل مع التطورات، ومحاولة الوقوف عند حدود التصعيد المقيد والتهدئة قبل الحاجة لمواجهة التهديدات التي يمكن أن يفرضها التوجه إلى حرب مفتوحة يدخلها القطاع وهو أكثر تدميرا، والبشر وهم أقل قدرة على الصمود، والتهجير القسري أو “الطوعي” المدفوع بالعنف والتدمير والتجويع وهو الهدف الذي يسعى اليمين الإسرائيلي المتطرف إلى تحقيقه عبر القوة.
في اللحظة تبدو حرب غزة في مفترق طرق، وفي المجمل يقف العالم في مفترق طرق بين الإنسانية والعدوان، والقوة والسلام، والظلم والعدالة، وحماية الشعب الفلسطيني وضمان حقه في الدولة المستقلة القابلة للحياة وجهود التصفية والتهجير. ومن شأن التحركات التي تتم في اللحظة تحديد مستقبل يتجاوز غزة إلى الإقليم والعالم.