سوريا الشرع.. بين اقتناص الفرصة ومتاهة المجتمع الدولي

الرئيس السوري أحمد الشرع (الفرنسية)

توجست خيفة منذ أن أعلن الرئيس السوري أحمد الشرع مبكرًا وقبل أن تحط الثورة رحالها؛ عن ضرورة الانتقال من عقلية الثورة إلى عقلية الدولة، حيث قال: “عقل الدولة لا بد أن يحضر، لأن عقل الثورة لا يبني دولة، فالثورة صفتها الهيجان والثوران وردود الأفعال، وهي تصلح في إزالة حكم ولا تصلح في بناء حكم، ولأن حجم الدمار في سوريا يتطلب جهودًا جماعية، ولذلك بناء سوريا وإعمارها يأتي على رأس الأولويات”.

وعلى الرغم من أن تلك التصريحات تبدو عقلانية وطبيعية فإنها كانت تحتاج إلى ظروف محلية وإقليمية مستقرة، وأجواء عادية وليست طارئة واستثنائية كما هو الأمر في سوريا بظرفها الداخلي المضطرب ومحيطها الإقليمي والعالمي المتربص الملتهب.

وقد أعلن الشرع عن تلك السياسة، في وقت لم يفق فيه العالم بعد من مفاجأة إزاحة نظام الأسد بواسطة المعارضة المسلحة التي تمثل الأغلبية في أقل من أسبوعين فقط.

ومثلت تلك التصريحات النهج الجديد الذي يشير إلى أن محاربي الثورة قد أعلنوا العفو العام ووضعوا السلاح في غمده، وتفرغوا لأمور الإدارة وأدوات البناء والإعمار لإنقاذ سوريا المدمرة، ولا شك أن ذلك النهج الجديد، مع إعلان العفو العام، والتمهل في فتح ملف العدالة الانتقالية، قد أغرى أعداء الثورة في الداخل والخارج، فكما يقول المتنبي:

ووضع الندى في موضع السيف بالعلا

                              مُضِرٌّ كوضع السيف في موضع الندى

وقد ترتبت على التبكير بتلك الخطوات غير المتوقعة المحاولة الانقلابية التي زلزلت سوريا الجديدة، وسميت بأحداث الساحل، ولم تكن عشوائية، بل كانت جزءًا من مخطط منظم يهدف إلى الإطاحة بالحكومة السورية الجديدة، وتضمن هجمات منسقة من أكثر من جهة على رأسها فلول نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد ضد دوريات وحواجز أمنية أدت إلى مقتل المئات من عناصر الأمن، وهو ما أدى إلى استنفار عام وتنفيذ عمليات تمشيط ومطاردة للفلول أدت إلى مقتل المئات، وتخلل ذلك اشتباكات عنيفة شملت تجاوزات في حق المدنيين، وهو ما أحرج السلطة التي دخلت دمشق معلنةً: “اذهبوا فأنتم الطلقاء”، لذلك فقد سارعت حكومة الشرع بالتحقيق ومحاسبة المتورطين.

تحديات خارجية

حتى الآن لا يريد الغرب إعلان العداء لسوريا الجديدة، لكنه لا يريد مدّ يد العون بشكل مطلق إلى نظام حاكم له خلفية إسلامية وفي دولة محورية كسوريا.

لذلك لن تخلو العلاقة بين تلك الأطراف من ممارسات الضغط والمساومة ومحاولة فرض الوصاية، ومنح بعض المساعدات لجر سوريا تدريجيًّا إلى متاهة كسب رضا المجتمع الدولي لسد جزء من احتياجاتها على حساب الاستقلال والسيادة الوطنية.

ودليل ما سبق هو السباق الدبلوماسي المحموم والمفاوضات التي جرت على قدم وساق إقليميًّا وعالميًّا لمحاولة تدويل مصير سوريا بعد الأسد.

كل المعطيات تؤكد أن الرهان على المجتمع الدولي سواء المنظمات أو الدول النافذة لإنقاذ سوريا هو رهان خاسر، ويكفي للتأكيد على ذلك معرفة أن الأمم المتحدة قد قدّرت الوقت الذي تحتاج إليه سوريا طبقًا للمعدل الحالي من عطاء المانحين “بنصف قرن” على الأقل للعودة إلى الوضع الاقتصادي الذي كانت عليه قبل عام 2011م.

وقد جاء تقدير الأمم المتحدة هذا بعد الانتهاء من مؤتمر المانحين الذي عقده الاتحاد الأوروبي ببروكسل حول سوريا في السابع عشر من شهر مارس/آذار الحالي.

أما المدهش في الأمر فهو أن الدول المانحة هذا العام وبينها الاتحاد الأوروبي قد تعهدت بتقديم مساعدات إلى سوريا بقيمة 5.8 مليارات يورو (4.2 مليارات من الهبات و1.6 مليار من القروض) ، وهو مبلغ أدنى من التزامها السابق في العام الماضي في ظل وجود بشار الأسد الذي تعهدت فيه الدول المانحة بتقديم نحو 7,5 مليارات يورو لسوريا.

وقد قررت الولايات المتحدة، برئاسة دونالد ترامب هذا العام تعليق مساعداتها الدولية، في حين أكدت دول الاتحاد أنها مستعدة لإعادة النظر في الرفع التدريجي للعقوبات المفروضة على سوريا، الذي اتُّفِق عليه في فبراير/شباط الماضي، إذا تكررت حوادث كحادث الساحل السوري، كما أعلنت فرنسا أنها ستُعارض أي رفع إضافي للعقوبات “إذا مرت الأحداث السابقة بلا عقاب”.

في النهاية لا يمكن لسوريا الجديدة إعطاء ظهرها للمجتمع الدولي، كما أنه لا يمكن لها التعويل عليه اقتصاديا وسياسيًّا وإلا فقدت قرارها واستقلالها وسيادتها وثرواتها أيضا، لذا فالطريق الأمثل لنهضتها هو الاعتماد على الذات، واستثمار كافة المقومات، بالتوازي مع وجود علاقات متوازنة مع كافة الدول.

تحديات داخلية

ربما يكون أهم التحديات الداخلية التي تواجه النظام السوري الآن في تلك الأوقات المفصلية الفارقة وربما حتى قبل التحديات الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، هو تحدّي حصر الرئيس أحمد الشرع في بوتقة الرئيس التنفيذي البيروقراطي الذي تستهلكه بشكل كبير الإجراءات الرسمية والتفاصيل الإدارية، والعمليات التنفيذية والروتين.

والانشغال بما سبق (كما يحدث في بعض الدول المستقرة ذات المؤسسات الراسخة) يعيق حتمًا بالنسبة للوضع السوري رؤية الصورة الكبيرة ويمنع من التعامل مع القضايا الاستراتيجية، ويقلل من كفاءة اتخاذ القرارات السريعة الفعالة، وهو ما يؤثر في التركيز على القضايا الأهم، خاصة مع كثرة الاستغراق في التعاطي مع تفاصيل المشهد الداخلي الحالي المهلهل، وهو أمر لا بد أن يتكفل به مجلس وزراء الحكومة السورية التنفيذية الحالية.

ما زالت الفرصة سانحة أمام الرئيس الشرع ونظامه الحاكم ليدخل التاريخ مؤسسًا كما دخله محررًا مع رفاقه، وربما يكون تأسيس دولة سوريا الجديدة القوية في ذلك المحيط وتلك الظروف ليس بالأمر الهين، ولكنه ليس مستحيلًا رغم كافة المعوقات والتحديات، فالنجاح في تولي مقاليد الحكم لا بد أن يعقبه تثبيت أركان الدولة، وبسط النفوذ، وإزاحة كافة التحديات تمهيدًا للسيادة الكاملة، وذلك بالتوازي مع استثمار كافة المقومات وإعمار الدولة دون النيل من استقلالها.

الخلاصة تحتاج سوريا إلى معالجة استثنائية لواقع سياسي استثنائي بكل ما فيه من تعقيدات، وفي نفس الوقت على الحكومة السورية أن تحافظ على مبادئها وأهدافها الثورية، وهذا يتطلب توازنًا دقيقًا ومرونة في التعامل مع المتغيرات.

كبح الجماح

تتعرض سوريا لتحديات، هي أكبر من مجرد ثورة مضادة بدعم أطراف خارجية، وأكبر أيضا من استعانة بعض الأنظمة الإقليمية بالفضائيات والصحف ووسائل التواصل الاجتماعي، لإفشال النظام الحاكم، وتعميق الانقسام، وبث الفرقة، وتفخيخ الوئام المجتمعي.

ولا يخفى على أحد الآن سعي العديد من القوى الدولية والإقليمية لكبح جماح التجربة السورية، خشية نجاحها أو استنساخها في دول مجاورة.

ولذلك تسعى العديد من تلك القوى إلى محاولة عرقلة المسار وتغييره قدر المستطاع، مع محاولة إيجاد صيغة تضمن لتلك القوى موضع قدم لها في سوريا، لتحقيق مصالحها الاقتصادية والسياسية.

غني عن التعريف أيضا رفع لافتات براقة، بغرض التدخل لفرض الوصاية، والنيل من سيادة الدولة واستقلالها، مع السعي لترسيخ المحاصّة والطائفية، على حساب اختيار الشعب نفسه.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان