“الوشق المصري”.. ما وراء الحكاية

بين ليلة وضحاها، صار الوشق المصري “شاغل الدنيا ومالئ الناس”.
الحيوان اللاحم، الذي يشبه النمر تشريحيًّا، وإن كان أصغر حجمًا، ذو الأذنين الطويلتين المدببتين بدرجة لافتة، المنحدر من فصيلة السنوريات، التي تضم في بطون عائلاتها الأسود والنمور والفهود والقطط، الكائن البري الذي لم يسمع به معظم المصريين، ولم يعرفوا أنه يعيش على أرضهم، غدا فجأةً نجم النجوم.
الحكاية وما فيها أن وشقًا مصريًّا “النيل رواه والخير جواه”، تجاوز الحدود الشرقية إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، فهاجم رهطًا من جنود العدو الإسرائيلي، فنهش من أجسامهم نهشًا هنيئًا مريئًا، وخدش في لحومهم خدشًا عميقًا داميًا.
فرحة عارمة بـ”العملية البطولية”!
فور شيوع القصة، إثر تداولها في الإعلام العبري، دوَّت وسائل التواصل الاجتماعي، فكتب المصريون ودوَّنوا وسخروا وحللوا وفسروا، وأمعنوا كعادتهم في التنظير والتأويل، وكانوا على اختلاف مشاربهم السياسية، ومواقفهم من السلطة الحاكمة، فرحين مستبشرين بـ”العملية البطولية”.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالبلشي وسلامة.. معركة الصحافة و”اللا صحافة”
فيديو القسام لإنقاذ الأسرى الإسرائيليين.. هل وصلت الرسالة؟
رسائل إلهية أم ظواهر طبيعية.. تأملات على وقع زلزال إسطنبول
تقلَّد الكائن الذي كان مجهولًا أوسمة الفخار، وكيلت فيه المدائح العصماء، وفاضت عبارات الغزل أنهارًا، ووُضِعت فوق رأسه الصغير المستدير أكاليل الغار، وكيف لا؟ ألم يقتص من العدو الذي يسفك دماء أشقائنا في فلسطين العزيزة؟ أليس من حق الضحية أن يفرح حين يتأذَّى جلاده؟.. الدم بالدم قصاصًا فيه حياة.
الوشق المصري بات الوسم الأعلى تداولًا على منصة إكس، إنه حديث الساعة الذي يغطي على كل حديث، بما في ذلك مشاحنات كرة القدم، وعلى رأسها التسريبات حول الانتقال المفاجئ لنجم الزمالك أحمد سيد زيزو إلى الغريم التقليدي الأهلي، في صفقة بقيمة عشرات الملايين من الجنيهات، بينما غالبية الناس تحت نير “العَوَز”.
لا حديث عن المسلسلات الرمضانية، وأسرار اعتزال المخرج هذا، وثقل ظل الممثلة تلك، ولا عن الأوامر الفوقية بإصلاح حال الدراما، التي انتبهت السلطات التي تحكم كل شيء، بما في ذلك الإبداع، إلى حالها المرزي والمخزي.
كل التريندات تذبل أمام حكاية الوشق، الذي بلغ الاحتفاء به مبلغًا، يرشحه لأن يتغنى به شعراء الربابة، كما في السير الشعبية التراثية، على غرار الزناتي خليفة والزيني بركات وعنترة بن شداد.
حقيقتان تستحقان التفكير
في تمعن تفاعلات الحكاية، تتجلى حقيقتان تستحقان الوقوف أمامهما وقفة المتدبِّر المستعبِّر، فالمسألة أبعد من الهزل، وأعمق غورًا من “التنكيت والتبكيت”، ولا تُختصر في النكات الرشيقة التي بعثرها مستخدمو مواقع التواصل في ردهات الشبكة العنكبوتية.
الحقيقة الأولى أن الوجدان الشعبي المصري، بما أظهره من سعادة إزاء تأذّي جنود الاحتلال، لا يزال رغم “كامب ديفيد” التي تكاد تستكمل عقدها الخامس، يأبى استساغة إسرائيل، ويرفض شراء الأحاديث الرسمية عن “السلام الدافئ” إذ يرى الأمور من منظوره الوطني والديني إلى جانب التاريخي.
حقائق الوطنية والدين والتاريخ تؤكد بحسم لا تخطئه العين، من حين لآخر، وفي مواقف مفصلية أن المصريين يعتبرون إسرائيل كيانًا إجراميًّا استيطانيًّا، يستحيل أن يتطبعوا وإياه إلا إذا تطبَّع الجسم مع السرطان.
كان رئيس وزراء العدو الأسبق، مناحيم بيغن الذي تشاطر جائزة نوبل للسلام مع السادات، يقول تعليقًا على توقيع اتفاقية كامب ديفيد: إن السلام الحقيقي بين مصر وإسرائيل سيتحقق بعد بضعة عقود، حين تولد أجيال غير مثخنة بجراح الماضي، إثر الحروب بين البلدين.
ها هي توقعاته تضيع هباءً منثورًا، ولا عزاء للذين يتعاملون مع المقولات الإسرائيلية، كما لو كان الباطل لا يأتيها من فوق ومن تحت.
ما يراه المصريون من أطراف الأطفال الفلسطينيين المبتورة، وبقايا الأبنية العلاجية المبعثرة، وحطام مساجد غزة بعد قصفها، وصرخات الجوعى النازحين في الخيام، ودموع الثكالى في الظلام، ينعش ذاكرة الغضب، فتعود العلاقة إلى المربع رقم صفر، حيث تتموضع إسرائيل في مكانها الطبيعي، هي العدو رقم واحد، كانت كذلك وستبقى.
على ذلك فإن الوشق الذي تسلل عبر الحدود، ونهش وخمش بغير رحمة جنود العدو، كان يُعبّر عن أحلام الملايين الذين يتوقون إلى القصاص من العدو، الذي لا أمان له ولا ذمة، ولا عهد ولا كلمة.
صحيحٌ أن الاحتفاء هنا يبدو منبتّ الصلة بأي معنى عقلاني، ولا ينبعث عن أي تفكير منطقي، لكنه في جريانه الهادر على جميع المستويات في القاعدة الشعبية، يكشف عما وقر في ضمير مصر، من التزام أخلاقي بالثوابت الوطنية، ولا بأس على كل حال بالاستبشار بأن العدو يتألم، وما أجمل أن يكون الوشق مصريًّا، {وما يعلم جنود ربك إلا هو}.
البحث عن بطل
أما الملاحظة الثانية، فتتمثل في تعطش الشارع إلى مظهر من مظاهر البطولة، من دون أدنى اعتبار للحسابات السياسية التي تتحكم في الرد الرسمي، إزاء العجرفة الصهيونية.
العوام لا ينشغلون باعتبارات السياسة، ولا يضعون في حساباتهم المخاطر الوارد حدوثها من جراء هذا القرار أو ذاك، ربما لشح المعلومات أو تشوشها في عقولهم، لكن هذا لا ينفي الظواهر الماثلة أمام العيون.
علاوةً على ذلك وفي سبيل التأصيل العلمي، فإن ظهور الوشق وعلو ذكره بين الناس، وإلباسه ثياب البطولة والجسارة، يوحي بخاصية سيكولوجية لا شعورية تهيمن على نفسية الشعوب المكسورة، وهي اختلاق “البطل المحلي” ولو كان من ورق.
تلك الخاصية، كما يقرر باحثو علم نفس واجتماع، هي ما استغلها الرئيس الراحل عبد الناصر، إذ توخى أن يغدو في عيون مواطنيه بطلًا مغوارًا، فإذا بخطاباته الحماسية وربما “الشعبوية”، حول استقلال الإرادة المصرية، ورفض قوى الاستعمار الإمبريالية، والتصدي للإملاءات السياسية والاقتصادية الخارجية، تلهب حماس جماهير الشعب الذين غنَّى لهم عبد الحليم حافظ من كلمات صلاح جاهين: “جماهير الشعب تدق الكعب وتقول كلنا جاهزين”.
الدرس المستفاد مما بين سطور حكاية “الوشق” أن الملايين من أبناء مصر، تحت وطأة حالة الانكسار القومي الراهنة، يتعطشون إلى بطولة ما، لمواجهة عدو متطاول صفيق، ولمَّا تلمسوا بطلًا من بني البشر فلم يجدوه، جعلوا من حيوان أعجم بطلًا، وهي مفارقة مضحكة، لكنه ضحك كالبكاء.