هل تصبح ألمانيا عاصمة “البحث العلمي” بعد تراجع الولايات المتحدة؟

أثارت إجراءات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، المتعلقة بالتخفيضات المالية الكبيرة في مجالات البحث العلمي، وحل وزارة التعليم، مخاوف كبيرة بشأن مستقبل العلم والعلماء في الولايات المتحدة. فقد بُنيت نهضة البلاد وتفوقها على الاستفادة من الأبحاث العلمية، لكن حرية البحث العلمي أصبحت مهدَّدة اليوم بشكل غير مسبوق. وذلك في ظل إدارة تسعى إلى التدخل في نتائج الأبحاث، والتأثير في اختيار موضوعاتها، وفصل الباحثين الدوليين وفقًا لأيديولوجيتها ومصالحها، بدلًا من تلبية احتياجات المجتمع والبيئة.
إغلاق مراكز بحثية متميزة
في 17 فبراير/شباط 2025، وبعد شهر واحد فقط من تولّي ترامب السلطة، شنت إدارته هجومًا على مراكز الأبحاث، وفصلت آلاف الباحثين، وأعلنت تخفيضات كبيرة في الميزانيات البحثية، وصلت إلى مليارات الدولارات. وطالت هذه التخفيضات العديد من المراكز البحثية، لا سيما في مجالات الطب والصحة، مما أثر في أبحاث مهمة لعلاج ألزهايمر والسكري والسرطان، واللقاحات.
ودفع ذلك الباحث البارز في مجال السرطان، إيان فوتشي، إلى توجيه نداء لإدارة ترامب، حثها فيه على التفكير في أهمية الأدوية التي يعتمد عليها مرضى السكري والقلب والسرطان، مشيرًا إلى أن معظمها قد طُوّرت بفضل باحثين حصلوا على تمويل من المعاهد الوطنية للصحة في الولايات المتحدة، متسائلًا “هل يخدم تدمير سنوات من التقدم البحثي الشعب الأمريكي حقًّا؟”
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالبلشي وسلامة.. معركة الصحافة و”اللا صحافة”
فيديو القسام لإنقاذ الأسرى الإسرائيليين.. هل وصلت الرسالة؟
رسائل إلهية أم ظواهر طبيعية.. تأملات على وقع زلزال إسطنبول
أمّا مارتن باش، وهو أحد العلماء الذين جرى فصلهم أخيرًا، وكان أستاذًا جامعيًّا بارزًا في أبحاث الصمم، وانتقل العام الماضي لرئاسة وحدة أبحاث في المعهد الوطني للصحة، فقد صرَّح قائلًا “تم إيقاف تمويل أبحاثي، ولم أعد أشعر بأنني مُرحَّب بي في هذا البلد”. وأضاف في مقابلة صحفية أنه مضطر إلى مغادرة الولايات المتحدة، مشيرًا إلى أنه يفضل الانتقال إلى ألمانيا.
وفي قطاع أبحاث المناخ، تعرَّض 1300 عالم وباحث للفصل، إذ سعت إدارة ترامب بدعم من إيلون ماسك إلى تقليص النشاط البحثي في هذا المجال، باعتبار أن التغير المناخي ليس من أولويات الإدارة الجديدة، بل إن ترامب وصف الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي بأنها “عائق أمام الازدهار المستقبلي للولايات المتحدة”، داعيًا إلى حلّها وتقليص حجمها.
وعلَّق عالِم المناخ توم دي ليبيرتو على ذلك، قائلًا “لم نعد قادرين على التنبؤ بشكل موثوق بالأحداث الجوية”. وقال مايكل أوبنهايمر، الحاصل على جائزة نوبل للسلام “سيؤدي تدمير هذه المؤسسات إلى عواقب وخيمة، قد تكلّف أرواحًا، لأننا لن نكون قادرين على اكتشاف المشكلات البيئية وحلها في وقت مبكر”.
التاريخ يعيد نفسه
من جانبها، رأت الخبيرة الاقتصادية أولريكه مالمنديير، أستاذة الاقتصاد في جامعة كاليفورنيا، أن إجراءات ترامب التقشفية قد تشكل فرصة كبيرة لألمانيا، إذ يفكر العديد من العلماء البارزين في الانتقال إليها بسبب مخاوفهم من تراجع الاستقرار المالي وتقييد الحرية العلمية في الولايات المتحدة. ودعت ألمانيا إلى استقطاب هؤلاء العلماء والاستفادة من خبراتهم.
ويبدو أن التاريخ يعيد نفسه، ففي ثلاثينيات القرن الماضي، سافر العلماء الألمان إلى الولايات المتحدة هربًا من النظام النازي، بعدما كانت ألمانيا رائدة في مجالات بحثية عديدة، وأسهموا لاحقًا في أن تصبح الولايات المتحدة قوة علمية. واليوم، تستعد ألمانيا لاستقبال العلماء النازحين من أمريكا، وتوفير الدعم اللازم لهم لمواصلة أبحاثهم.
حتى وقت قريب، لم تكن الجامعات الألمانية قادرة على منافسة نظيراتها الأمريكية النخبوية من حيث ظروف البحث، لكن بعد هذه التطورات وتقييد حرية البحث العلمي وإلغاء تأشيرات العديد من طلبة النخبة، يبدو أن الوقت قد حان لاستقطابهم.
وحظيت هذه القضية باهتمام واسع في ألمانيا، وتناولتها البرامج التلفزيونية والمقالات الصحفية، داعية إلى تحويل ألمانيا إلى مركز عالمي للعلوم، من خلال استثمارات ضخمة في البحث العلمي، وإنشاء مراكز بحثية متخصصة في المجالات التي تضررت في الولايات المتحدة، مثل الصحة والبيولوجيا وتكنولوجيا المناخ والذكاء الصناعي.
ألمانيا تستعد لاستقبال العلماء المفصولين
وبينما تسود حالة من عدم اليقين والخوف في الولايات المتحدة بسبب هذه السياسات، يبرز السؤال الكبير في ألمانيا: كيف ستستجيب أوروبا لهذه التغيرات؟ ولا شك أن استمرار هذا الاتجاه في الولايات المتحدة قد يفتح أمام أوروبا فرصة ذهبية لجذب العقول العلمية المتميزة.
بوصفها قاطرة الاقتصاد الأوروبي، تتحمل ألمانيا مسؤولية كبيرة مع هذه التحديات. وقد أدرك المستشار الجديد فريدريش ميرتز ذلك، واتفقت الأحزاب الألمانية على تعليق العمل بقانون “فرملة الديون” والسماح باقتراض داخلي يصل إلى 800 مليار يورو، لاستثمارها في البنية التحتية والجيش والبحث العلمي. ومن شأن هذا أن يوفر “وطنًا جديدًا” للباحثين الذين لم تعد أبحاثهم تحظى بالدعم في الولايات المتحدة، مما يمنحهم فرصًا كبيرة في ألمانيا.
بوجه عام، تملك مراكز الأبحاث الألمانية اليوم فرصة ذهبية لاستقطاب مواهب علمية لم تكن قادرة على جذبها سابقًا، خاصة أن بنيتها التحتية البحثية قوية، وتمويلها مضمون من الجمعية الألمانية للبحث العلمي (DFG). ولهذا، فإن ألمانيا قد تصبح الوجهة الجديدة للباحثين الدوليين، لا سيما في مجالات مثل أبحاث المناخ والصحة والتنوع البيولوجي، التي لم تعد تلقى دعمًا في عهد ترامب.
وهكذا، قد يتحول ميزان القوى العلمية العالمي، ليجعل من ألمانيا وأوروبا مركزًا جديدًا للابتكار والاكتشافات العلمية.