ورطة الجامعة العبرية

عفوا.. لا يذهب القارئ إلى ما لا أقصد. فهذا المقال يتناول الجامعة العبرية بالقدس، وليس بمكان آخر، وذلك لأن 1 إبريل/نيسان 2025 يوافق مئوية افتتاحها.
بالعودة إلى أرشيفات الصحف المصرية والفلسطينية، وبخاصة بين مارس/آذار ومايو/أيار 1925، يتعزز استنتاج مفاده أن الحكومات والأحزاب والتيارات والشخصيات الأقل إخلاصا للديمقراطية وارتباطا بالشعب، هي الأضعف حصانة أمام الاختراق الصهيوني، والأكثر استعدادا للتفريط في حقوق الوطن والمواطن.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsنهاية الإخوان!!
الحويني نسيج وحده 3/4 أبو إسحاق الحويني والشيخ المنشاوي في سوهاج
بسبب معدلات الإنجاب.. تركيا تدق ناقوس الخطر
تفيد القراءة المتأنية لهذه الصحف أن حكومة أحمد زيور، هي التي أوفدت الأستاذ أحمد لطفي السيد مدير الجامعة المصرية ليحضر افتتاح الجامعة العبرية، ويمثلها في حفل، وبشهادة صهاينة، لم يكن إلا عملا سياسيا دعائيا في خدمة مشروع الوطن القومي لليهود. وقد تصدره اللورد بلفور صاحب وعد الحكومة البريطانية في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 1917، حين كان وزيرا لخارجيتها.
بين تزوير الانتخابات
ومشاركة جامعة القاهرة
أعداد “كوكب الشرق” الوفدية تنعش الذاكرة بسياق يحمل فهما وتفسيرا لتوريط جامعة القاهرة في حدث سياسي استعماري عنصري بامتياز، نقيض لروح العلم واستقلالية الجامعات والنزاهة الأكاديمية. فضلا عن الاشتراك في العدوان على حقوق الشعب الفلسطيني الإنسانية والسياسية، والتمهيد للإضرار بمصالح مصر وأمنها ومستقبلها والمنطقة.
أطالع بصفحاتها في غضون مارس 1925، وقبل أيام من افتتاح الجامعة العبرية، توثيقا بالتفاصيل الدقيقة البالغة الثراء لأول تزوير للانتخابات النيابية بعد دستور 1923 بواسطة حكومة زيور نفسها، ولانقضاضها على مكتسبات المصريين من ثورة 1919 الشعبية، وحل البرلمان مرتين في أقل من ثلاثة أشهر بإرادة ملكية أوتوقراطية (فؤاد الأول) لمنع عودة الوفد إلى الحكومة ورئاسة زعيمه سعد زغلول للبرلمان.
ويعزو مؤرخون لإسماعيل صدقي الملقب “جلاد الشعب” وزير الداخلية حينها التفنن في التزوير والقمع. هذا القمع الذي امتد ليجهض الاحتجاج في شوارع مصر على توجه بلفور إلى القدس لافتتاح الجامعة.
يوم بقسم الأزبكية
جزاء الهتاف لفلسطين
يوثق “الأهرام” في 26 مارس 1925 تحت عنوان “من أجل الهتاف لفلسطين”، رسالة الصحفي محمد علي الطاهر (1896 ـ 1974)، ابن نابلس صاحب جريدة “الشورى” التي كانت تصدر من القاهرة، عن اعتقاله وزميله عبد اللطيف أفندي الحسيني ابن القدس داخل محطة مصر للسكك الحديدية، خلال احتجاج كان في استقبال بلفور القادم من الإسكندرية متجها إلى القدس، ويبين فيها كيف تعمد البوليس أخذهما سيرا على الأقدام مصفدين بالأغلال إلى قسم الأزبكية، واحتجازهما حتى صباح اليوم التالي بعد “ضبط أوراقنا الخاصة وعلبة السجاير”، والتعنت في رفض قبول تقدم “أصحاب الحيثيات وبينهم الباشوات” لدفع مبلغ الكفالة لإخلاء سبيلهما، وحتى ضمنهما “صبي شيخ الحارة”.
ولو قدر للطاهر أن يعيش زماننا لتواضعت دهشته إزاء قسوة الشرطة في عهد زيور/ صدقي مقارنة بما قبله، ولأضاف إليها ما يتجاوز مدارك سكان المحروسة 1925 حين كتب مختتما رسالته للأهرام: “أشكر نيابة الأزبكية على حسن تصرفها ومراعاتها للقوانين، فلولاها لبقينا تحت رحمة البوليس، والعياذ بالله”. أما عباد زماننا هذا، فلا شك أنهم غابطون الطاهر ورفيقه على تضحيتهما بليلة حبس فقط جزاء الهتاف لفلسطين وحظهما في نيابة كهذه، وهم يتساءلون: وهل تجرؤ صحيفة اليوم بالقاهرة على نشر انتقادات مماثلة للبوليس، ولو لمأمور قسم الأزبكية؟
مقاومة فلسطينية
وطنية جامعة
بين مارس وأول إبريل 1925 تنشر الصحف المصرية والفلسطينية معا برقيات ومناشدات لزيور ووزارة المعارف والجامعة المصرية ومديرها لطفي السيد وللأحزاب والهيئات والصحف تحذر من المضي في المشاركة المصرية بحفل افتتاح الجامعة، التي وصفتها هذه الصحف بالصهيونية تارة وبالعبرية تارة أخرى؛ مما يكذب أي ادعاء بأن الحكومة وجامعة القاهرة ومديرها لطفي السيد لم يكونوا على علم بكنه الحدث وأبعاده.
ويتراوح خطاب التحذير والاستغاثة بين العاطفي، على غرار “طعنة في الصميم للإخوة بفلسطين”، وبين المنطق العقلاني العملي الذي يعدد أبعاد الحدث، ويكشف عن طابعه السياسي العنصري الاستعماري، لا العلمي المحض المتجرد.
وكان عدد اليهود الصهاينة بفلسطين حينها لا يتجاوز 10 في المئة من سكانها والحركة الصهيونية تعمل ما بوسعها وبالعنف والإرهاب لإجبار اليهود على إحياء لغة ميتة. ولذا ظهر بين اليهود مصطلح “حرب اللغة” الممتدة من وسط وشرق أوروبا إلى فلسطين.
وقبل افتتاح الجامعة في يونيو/حزيران 1924 اغتال الفصيل الرئيس المسلح في هذه الحركة “الهاغاناه”، جاكوب دي هان المنادي بإلغاء وعد بلفور، والحدث حققته في مقال سابق هنا بعنوان: “مئوية أول اغتيال صهيوني لشخصية يهودية بفلسطين”.
تسمح أرشيفات صحف مصر وفلسطين معا ببناء سردية موثوق بها لمعارضة فلسطين بمسلميها ومسيحييها معا لافتتاح الجامعة العبرية بالقدس وقدوم بلفور إليها، بالإضراب العام والمظاهرات والمقاطعة وارتداء الشارات السوداء وبرقيات الاحتجاج.
واللافت انخراط يهود فلسطينيين في هذه المعارضة الوطنية، وهم من أبناء البلد قبل أولى موجات الهجرة الأوروبية الصهيونية، التي تزامنت مع احتلال بريطانيا لمصر 1882. هؤلاء الذين تعكس عبارة حاييم بياليك الشاعر الصهيوني القادم من روسيا القيصرية “بياليك”، وقد ألقى قصيدة في حفل الافتتاح، نظرة الاستعلاء العنصري تجاههم: “أمقت العرب لأنهم يذكرونني بهؤلاء اليهود الشرقيين البدائيين”.
كما توثق أرشيفات الصحف انخراط الحزب الشيوعي في هذه المعارضة، واعتقال العديد من أعضائه اليهود بدورهم.
ولا أدل على عنفوان هذا الاحتجاج/ المقاومة واتساع نطاقه من الأنباء المنشورة عن إرسال تعزيزات عسكرية بريطانية من مصر إلى فلسطين، وبينها المدرعات، ومناقشة النفقات الإضافية الباهظة لتأمين جولة بلفور في مصر وفلسطين وسوريا ولبنان بمجلس العموم وصحافة لندن.
كما يتضح أن الاستعمار كان يحرس بحرابه افتتاح الجامعة الصهيونية أو العبرية بالقدس، بينما يغلق معهد المعلمين بالمدينة نفسها والعديد من المدارس الفلسطينية، كما توثقه صحف مصرية وفلسطينية، من بينها جريدة “الكرمل” في 8 إبريل/نيسان 1925.
مكلف بمهمة
لأسوأ تأثير في نفوس العرب
كتب مراسل “الأهرام” بالإسكندرية بعدد 7 إبريل 1925 تحت عنوان “الجامعة العبرية والسياسة الصهيونية في فلسطين”، ونقلا عن أديب فلسطيني: “كان لاشتراك الحكومة المصرية أسوأ تأثير في نفوس العرب، فلا يجوز أن تدوس عواطف الملايين من الناس إرضاء لبضعة آلاف من متمولي اليهود، وما التطبيل والتزمير باسم الجامعة إلا لأجل اجتذاب الإعانات من أغنياء اليهود من مختلف الأقطار ولاسيما من يهود أمريكا لصندوق الجمعية الصهيونية”.
لذا يتهافت أي تبرير للمشاركة الرسمية المصرية في حفل افتتاح الجامعة، بما في ذلك رسالة بخط لطفي السيد إلى “كوكب الشرق”، نشرتها في 6 مايو 1925 بعنوان: “الأستاذ لطفي السيد يدافع ويعتذر عن اشتراكه في حفلة الجامعة العبرية”.
دفاع “أستاذ الجيل” عن قرار حكومة الملك فؤاد الأول/ زيور مضطرب، إذ يعترف بعلمه “بالمرامي السياسية للاحتفال مع المبالغة فيه”، ثم يدعى أنه لم يكن يعلم بحجم الاحتجاج الفلسطيني ويهون منه، ويبرر ما يخرجه من صف المثقفين المستقلين الأحرار بكونه مكلفا بمهمة رسمية. وهذا يستدعي ما ردده مثقفون مطبعون بعد اعتراف السادات بالصهيونية وصلحه مع إسرائيل بأن أفعالهم المستنكرة بين المصريين هي بتكليف من “جهات سيادية” و”خدمة للأمن القومي”.
“قصة حياتي”
تتجاهل الورطة
فيما يشبه المذكرات، أصدر لطفي السيد كتابه “قصة حياتي” في طبعته الأولى 1962. وعندما عدت إلى صفحاته تبين تجاهله تماما ورطة المشاركة في افتتاح الجامعة الصهيونية أو العبرية. وهو التجاهل نفسه الذي يطبع مقالاته ونصوصه التي يجري جمعها وتوثيقها ونشرها بالقاهرة منذ سنوات، ويكاد يشمل القضية الفلسطينية والصهيونية بالمجمل.
لكن الكتاب يفيد من زاوية روايته ونشره وثائق إلحاق الجامعة بوزارة المعارف نهاية 1923، مع النص على ضمانات استقلاليتها. ومواقف “أستاذ الجيل” اللاحقة مقدرة دفاعا عن استقلال الجامعة ضد تدخل القصر والحكومة، لكن مشاركته في افتتاح الجامعة العبرية تعني سقوطا مبكرا في امتحان الاستقلالية الأكاديمية، وبعد أقل من عامين من تحول جامعة القاهرة من أهلية تأسست بتبرعات المصريين 1908 إلى حكومية تتبع وزارة المعارف.
وهنا عبرة أخرى بشأن أهمية الإخلاص، وبمطابقة الأفعال للأقوال، لاستقلالية الجامعات والمثقفين وتنظيماتهم وكياناتهم حفاظا على مؤسسات المجتمع، وأيضا اعتبار الدولة وسلطاتها، ولتمتين المناعة ضد ضغوط الخارج.
*
لا تسمح إسرائيل إلى اليوم بإقامة جامعة فلسطينية معتبرة داخل مدينة القدس. أما موقع جامعتها العبرية الإلكتروني فيقتصر على اللغتين العبرية والإنجليزية وحدهما. لكنه يتفاخر بأن جامعته قدمت للعالم 9 علماء من حملة “نوبل”، وأنها أصبحت تمتد من بقعة الاحتفال فوق جبل الزيتون لتشغل نحو 25 كيلومترا.
وهذا الموقع النواة للجامعة العبرية بالأصل أرض مغتصبة. وتوثق صحيفة “الكفاح” الفلسطينية بعدد 13 يناير/كانون الأول 1936 لدعوى ظلت متداولة أمام المحاكم رفعتها عائلة الخطيب طلبا لاسترداد تلك الأرض.
اليوم تفخر الجامعة العبرية بأنها تتقدم للمرتبة الـ81 بين أفضل جامعات العالم، وفق تصنيف “شنغهاي” 2024، فماذا عن جامعة القاهرة؟ التي كانت مشاركتها بحفل 1 إبريل 1925 محل حرص واهتمام فائقين من الصهاينة ورعاتهم المستعمرين البريطانيين.
تلك قضية أخرى.