المعارضة التركية وأزمة الاستقواء بالخارج

لوحة إعلانية لأكرم إمام أوغلو وعبارة "الأمة تدافع عن إرادتها" على خلفية الاتهامات التي وجهت له بالفساد (رويترز)

على الرغم من مرور أكثر من أسبوع على واقعة اعتقال أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول، وعدد من رؤساء البلديات الفرعية بالمدينة بتهم تتعلق بالفساد والابتزاز، والتنصت على الغير دون وجه حق، فلا تزل تركيا تعيش على وقع الصدمة التي تسبب بها هذا الحدث، الذي وُصِف بالزلزال المفاجئ، على جميع الصُعد الاجتماعية والاقتصادية.

انتهاج المعارضة في خطابها التصعيدي لغة التهديد والوعيد إذا لم تتحقق أهدافها التي أعلنتها تباعا، كالمطالبة باستقالة الحكومة ولا سيما وزير المالية بها، والدعوة لانتخابات عامة حالا، والتحقق من الشهادات الجامعية لرئيس الجمهورية، وتحقيق العدالة، والإفراج عن المعتقلين جميعهم من سياسيين وصحفيين وناشطين وحقوقيين، ومحاسبة المسؤولين جميعهم في الدولة خاصة أولئك الذين تآمروا على من وصفوه “بمنافس أردوغان” في الانتخابات المقبلة الرئاسية المقبلة، من شأنه أن يهدد فعلا مستقبل البلاد، وينذر بعواقب وخيمة قد تؤدي إلى المساس باستقرار الدولة، ونسف أسس السلم الاجتماعي بها.

لن نخوض في مدى صحة الاتهامات الموجهة لإمام أوغلو، فهذه ليست مهمتنا، ولن نعلق على ما تشهده ميادين بعض المحافظات وشوارعها وجامعاتها من تظاهرات واحتجاجات ما دمنا لم نكن حاضرين بها، وعلاقتنا بها كغيرنا لا تتعد ما يتم بثه على الفضائيات من صور ومشاهد حية تتفاوت في إيحاءاتها سلبا وإيجابا تبعا لتوجهات الفضائية التي تبثها.

اتهامات للعدالة والتنمية بالتآمر على إمام أوغلو

فالفضائيات الموالية للمعارضة تنقل صورة تختلف تماما عن تلك التي تبثها الفضائيات الموالية للحكومة، إذ ترى وسائل الإعلام والفضائيات التابعة لأحزاب المعارضة أن التظاهرات سلمية، وتتم بشكل حضاري لافت، وأن قوات الأمن هي التي تعتدي على المحتجين الذين يمارسون حريتهم في التعبير عن رأيهم.

وتصر على أن الاتهامات الموجهة لإمام أوغلو هي اتهامات مسيسة، لا صحة لها على الإطلاق، بل ويوجهون سهام اتهاماتهم للحزب الحاكم بالتآمر ضد مرشحهم لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة، مختلقا في سبيل هذا الغرض جملة من الاتهامات المتضاربة للحيلولة دون خسارته مقعد الرئاسة.

مدللين على صحة طرحهم بقيام المدعي العام فجأة بتبرئة إمام أوغلو من تهمة التعاون مع منظمة إرهابية عقب إعلان حزب الحركة القومية بزعامة دولت بهشلي، الشريك في الحكم، عن نيته عقد مؤتمر عام يضم عددًا من قيادات حزب العمال الكردستاني للتباحث معهم مباشرة بشأن حل الحزب، وتسليم سلاحه، استجابة لرغبة زعيمه عبد الله أوجلان.

فتح ملف علمانية الجمهورية وتحدي أردوغان

سعى حزب المعارضة الرئيس كذلك خلال الأيام الماضية إلى توظيف ملفات محفوفة بالخطر، إمعانا في إحراج الحزب الحاكم، وزيادة ضغوطه على الحكومة، وإجبارها على الانصياع لمطالبه، كإعادة طرح قضية علمانية الدولة، يدعمه في هذا التصعيد الشديد الخطورة عدد من الأحزاب السياسية الأخرى كالجيد، والبلد، والديمقراطي، والديمقراطية ومساواة الشعوب.

إذ رفع رئيس الحزب أوزغور أوزيل شعارات “أتاتورك أرادها علمانية” و”كانت علمانية، وستظل علمانية” مطالبا الجماهير المحتشدة أمامه بالترديد خلفه، وتوجيهه الحديث لرئيس الجمهورية بأنه لن يستطيع مهما فعل تحويل الدولة عن المسار الذي اختاره لها أتاتورك، وذلك في أعقاب الاعتداء على جامع شاه زادة باشي بمنطقة الفاتح، الذي يعود تاريخ إنشائه لزمن الدولة العثمانية.

حيث تم استهداف عدد من أضرحته التاريخية وتحطيمها، وتعمد البعض شرب الخمور في باحته، وإلقاء القمامة داخله، والتبول على مدخله، ما أدى إلى تدافع حشود من المصلين للاحتجاج على ما لحق بالمسجد من أضرار وتلفيات، وما تعرض له من إهانة، حيث أدوا صلاتي العشاء والتراويح معلنين أنهم جاؤوا لحماية مقدساتهم من عبث العابثين، وليس لإثارة الفوضى أو الاشتباك مع أحد.

ليبدأ طلاب الجامعات المشاركة في التظاهرات في الرد بإعلان تمسكهم بالإطار العام لعلمانية الجمهورية التركية وفق الأسس والمبادئ التي وضعها مصطفى كمال أتاتورك، بل وترديد هتاف “نحن جنود أتاتورك، نحن حراس العلمانية” في احتجاجاتهم.

أوزيل يطلق حملة لمقاطعة الشركات الإسلامية

تأكيدا على الرغبة في تأليب المجتمع التركي بعضه على بعض، وضرب السلم الاجتماعي بمطرقة من حديد، وإثارة الفوضى عبر استدعاء جراح الماضي والإلحاح في إبرازها، جاءت دعوة أوزغور أوزيل زعيم الحزب لمؤيديه وأنصار حزبه بمقاطعة الشركات ذات التوجه الإسلامي والتوقف عن شراء منتجاتها حتى إفلاسها. محددا قائمة بالأسماء تشمل شركات أثاث، ومقاهٍ، ومصانع إنتاج الحلوى والمخبوزات، ومنتجات الألبان، ومطاعم، ومكتبات، وشركات بترول، وهي دعوة أعادت إلى الأذهان انقلاب 28 فبراير/ شباط 1997، حينما انقلب الجيش على نجم الدين أربكان رئيس الوزراء آنذاك، في انقلاب يعرف بـ”انقلاب ما بعد الحداثة”.

إذ لم يخرج الجيش كعادته بأسلحته لإزاحة أربكان عن السلطة، بل استخدم ضغوطا اقتصادية غير مسبوقة على الشركات ذات الطابع الإسلامي الداعمة لأربكان، فتم وضعها تحت الرقابة اللصيقة، ومنع أصحابها من الدخول في المناقصات العامة، وقامت الأجهزة الرقابية المعنية بتتبع مصادر أموالها وعرقلة وصولها لإصحابها، وإعاقة عملهم مما عرض الكثيرين منهم للإفلاس.

تأليب الأكراد ضد الحكومة لضرب المصالحة

لم يكتف حزب الشعب الجمهوري بتوظيف الصراع التاريخي بين العلمانية والإسلام في البلاد، لتأجيج نار الفتنة بين مؤيدي التيارين، لكنه استدعى في خطاباته ملف الأكراد محاولا ضمان وقوفهم إلى جوار حزبه من جهة، وتأليبهم على الحكومة بشقيها المحافظ والقومي من الجهة الأخرى عبر توجيه التحية والسلام من فوق منصة الاحتجاج التي يقودها إلى صلاح الدين دميرتاش الرئيس السابق لحزب الشعوب الديمقراطي.

المعتقل لدى السلطات بتهم تتعلق بالتعاون مع حزب العمال الكردستاني، مطالبا بضرورة سرعة الإفراج عنه وعن باقي زملائه، ومؤكدا أنه لن يصمت حتى يتم الإفراج عن إمام أوغلو، ودميرتاش، وغيرهما من المعتقلين السياسيين، في محاولة على ما يبدو لضرب المصالحة التاريخية التي تتم حاليا بين الأكراد والأتراك بقيادة دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية نفسه.

في نهاية المطاف من الواضح أن أوزغور أوزيل زعيم الشعب الجمهوري قد عقد العزم على هدم المعبد على رؤوس الجميع في سبيل أن يصل حزبه إلى سدة الحكم بالبلاد، إذ لم يكتف بإثارة مسألتي العلمانية والأكراد، ومحاولة زرع بذور الفتنة والوقيعة بين العلمانيين والإسلاميين من جهة، وبين القوميين الأتراك والأكراد من الجهة الأخرى.

بل ذهب إلى أبعد من ذلك من خلال الاستقواء بالخارج، حيث اتهم في حوار له حديثا مع قناة “سي إن إن الدولية” أردوغان بمحاولة التنصل من التزامات تركيا تجاه المؤسسات الدولية المشاركة فيها، كالعمل على إخراجها من حلف “الناتو”، والابتعاد بها عن عضوية الاتحاد الأوروبي، وهو ما يمثل خسارة فادحة للجميع وفق وجهة نظره.

مؤكدا أن تركيا تعيش مرحلة مظلمة، فلم يعد بها ديمقراطية ولا قضاء مستقل، وأنه إذا تم إجراء استطلاع للرأي فإن 18% فقط من الأتراك سيقولون إن القضاء في تركيا مستقل، مؤكدا غياب العدالة واختفاء أسس حرية التعبير، مطالبا الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بالعمل على إنقاذ البلاد من المصير الذي أصبحت تواجهه في ظل استمرار حكم أردوغان.

محاولة ضرب السلم الاجتماعي للبلاد، وتأليب مكونات المجتمع على بعضها البعض، وتقسيم المجتمع إلى طوائف وجماعات، والاستقواء بالخارج من أجل مصالح حزبية ضيقة طمعا في الوصول إلى القصر الرئاسي من شأنه أن يدخل البلاد والعباد في نفق مظلم لا يعلم أحد إلى أين يمكن أن ينتهي؟

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان