“لحظة حزينة في عالم السينما”.. إلقاء الحجارة على الأوسكار!

لم تكن إسرائيل لتتسامح مع اقتناص مخرج فلسطيني لتمثال “الأوسكار” أرفع الجوائز في عالم السينما بالعالم، فكان أن حوصر فيلم “لا أرض أخرى” في الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها، وتجنبت دور السينما الكبيرة أن تعرضه حرصًا على عدم إغضاب اللوبي اليهودي صاحب النفوذ الطاغي في أمريكا، واقتصر ظهور الفيلم الذي يمتد لنحو خمس وتسعين دقيقة على عروض خاصة ومحدودة، كما هوجم صناع الوثائقي، وجرت شيطنتهم في الإعلام الإسرائيلي باعتبارهم اقترفوا عملًا عدائيًّا ضد “إسرائيل”.
ورغم ميزانيته المتواضعة وإنتاجه البسيط، فقد حصد الفيلم 33 جائزة من مهرجانات دولية بينها “برلين السينمائي”، وآخرها الأوسكار.
لن تتركه
ولم تكن الدولة التي اغتصبت أرض فلسطين التاريخية ونشأت بالقوة بواسطة العصابات الصهيونية عام 1948 لتدع فنانًا فلسطينيًّا يعيش بصورة طبيعية أو آدمية أو تسمح بتهيئة مناخ يتيح للمخرج الفلسطيني”حمدان بلال” تقديم مزيد من الفن الذي ترفضه الدولة العبرية وتناهضه بقوة لأنه يفضح ممارساتها العنصرية والتمييز الممنهج ضد العرب، ويكشف عن وجهها القبيح المستتر حول ادعاء أنها واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالبلشي وسلامة.. معركة الصحافة و”اللا صحافة”
فيديو القسام لإنقاذ الأسرى الإسرائيليين.. هل وصلت الرسالة؟
رسائل إلهية أم ظواهر طبيعية.. تأملات على وقع زلزال إسطنبول
لم تكن إسرائيل لتدع مخرجًا نشأ في ثنايا الأرض المحتلة بكل ظروفها الخانقة أن يخرج بمعاناة بني جلدته إلى العالم بحثًا عن التعاطف والتأييد للقضية الفلسطينية، ولذلك كان طبيعيًّا التضييق عليه والتحريض ضده وصولًا إلى اعتقاله بواسطة قوات الاحتلال من داخل سيارة الإسعاف التي استدعاها بنفسه بعد إصابته بالحجارة من قِبل المستوطنين (أول أمس الاثنين) في مشهد مأساوي عنيف.
معاناة “يطا”
“مسافر يطا” تجمُّع يضم تسع عشرة قرية فلسطينية داخل حدود بلدية “يطا” في محافظة الخليل جنوبي الضفة الغربية بالأرض المحتلة، وهي منطقة قديمة سكنها الكنعانيون في عصور سابقة.
“لا أرض أخرى” فيلم وثائقي فلسطيني-إسرائيلي مشترك، يروي قصة سكان “مسافر يطا” الذين يواجهون خطر التهجير القسري بسبب قرارات الجيش الإسرائيلي بتحويل المنطقة إلى ساحات للتدريب العسكري، ويوثق الفيلم معاناة سكان “مسافر يطا” مع الاحتلال الإسرائيلي الذي يقوم بهدم منازلهم وتشريدهم لطردهم منها.
ويتابع الفيلم الحياة اليومية لسكان المنطقة الذين يعيشون تحت التهديد المستمر بتدمير بيوتهم وتهجيرهم من أرضهم، ويركز على المقاومة السلمية للسكان الفلسطينيين الذين يحاولون حماية قراهم رغم الاعتداءات المستمرة من قوات الجيش الإسرائيلي وقطعان المستوطنين.
ويكشف الفيلم كيف أصبحت حياة السكان شبه مستحيلة بسبب قيام الاحتلال الإسرائيلي بمصادرة أراضيهم تحت وطأة وتغول التوسع الاستيطاني للاستيلاء على الأرض التي هي جوهر الصراع العربي الإسرائيلي ومن أكثر جوانبه حساسية.
4 في مهمة فنية
شارك في إخراج الفيلم أربعة فنانين، هم الفلسطينيان حمدان بلال وباسل عدرا، والإسرائيليان يوفال أبراهام وراحيل تسور، ويجسد الفيلم حالة نادرة من التعاون بين صحفيين فلسطينيين وإسرائيليين مناهضين للاحتلال لتوثيق الظلم الواقع على الفلسطينيين، ونقل معاناتهم اليومية إلى العالم بلغة سينمائية محترفة وجريئة في طرح وفضح ممارسات جيش الكيان الصهيوني بوجهة نظر إنسانية دون صخب الشعارات السياسية.
يثبت صناع الفيلم كيف يمكن للفن عمومًا والسينما خصوصًا أن تكون أداة قوية ومؤثرة في نقل معاناة الشعوب والمجموعات السكانية المضطهدة إلى المجتمع الدولي، ويثبت صناع الفيلم أن أدوات الإبداع يمكن أن تتجاوز تأثير خطب الساسة وهتافات المتظاهرين وحناجر الغاضبين.
الاستقبال الإسرائيلي
المتابع لردود الفعل بعد فوز الفيلم بجائزة الأوسكار سيكتشف أن قذف الفيلم بالحجارة بدأ مبكرًا وليس فقط قبل يومين عندما استهدف المستوطنون أحد مخرجيه الأربعة.
“لحظة حزينة في عالم السينما” هذه العبارة استقبل بها وزير الثقافة في الكيان الصهيوني ميكي زوهار خبر فوز الفيلم الفلسطيني “لا أرض أخرى” بجائزة الأوسكار لعام 2025 عن فئة الأفلام الوثائقية الطويلة، إذ اتهم زوهار صناع الفيلم بتعمد تشويه صورة إسرائيل أمام العالم، وترديد سرديات مناهضة للدولة العبرية.
أثار فوز الفيلم بجائزة الأوسكار ردود فعل واسعة في إسرائيل، ووُجهت اتهامات للفيلم بأنه “مُعادٍ لإسرائيل”، وطالت الاتهامات مخرجيه وسط تلميحات بالعمالة أو الخيانة لمخرجَيه الفلسطينيَّين اللذين يعيشان تحت الاحتلال، والإسرائيليَّين اللذين يحملان الجنسية النرويجية، ولم يتوقف التحريض ضد المخرجين الأربعة.
والعربي أيضًا
لم يكن الجدل حول الفيلم صناعة إسرائيلية خالصة، فالجانب العربي لم يفوت الفرصة، ووُجهت اتهامات للفيلم بأنه يصب في خانة التطبيع، وأن أي عمل تحت عنوان “تعاون فلسطيني إسرائيلي مشترك” هو جريمة تطبيع كاملة.
لم يرحم ناشطو مواقع التواصل الاجتماعي معاناة المخرجَين الفلسطينيَّين اللذين قضيا خمس سنوات لتصوير الفيلم وتوثيق أحداثه بين (2019-2024)، وإنما تجاهل الكثيرون مشاهدة الفيلم أو متابعة تأثيره وأهمية وقوف الفلسطينيين على منبر عالمي مثل جوائز الأوسكار معتبرين أن الفيلم يروّج للتطبيع بين العرب وإسرائيل، وهو أمر جدلي يحتمل ويحتاج إلى نقاش أعمق.
حجارة المستوطنين
بعد ثلاثة أسابيع من فوز الفيلم بالأوسكار، تعرَّض حمدان بلال -أحد المخرجَين الفلسطينيَّين- لاعتداء عنيف من قطعان المستوطنين في قرية “سوسيا” بالضفة الغربية، وأصيب في رأسه جراء استهدافه بالحجارة، مما دعاه إلى استدعاء سيارة الإسعاف التي وصلت بالفعل، وجرى البدء في علاجه داخلها من نزيف في رأسه، لكن قوات جيش الاحتلال وصلت إلى القرية بعد الفوضى التي أثارها المستوطنون، وبدلًا من كبح جماحهم اختارت أن تعتقل المخرج حمدان بلال في أثناء تلقيه العلاج إلى جانب زميله “يوفال أبراهام”، مساء الاثنين، للاشتباه في رشقه قوات الأمن الإسرائيلية بالحجارة، وفقًا للمتحدث باسم الجيش الإسرائيلي الذي أنكر في بيانه اعتقال بلال من سيارة الإسعاف، وقال إنه مجرد ادعاء.
مكان اعتقال بلال غير معلوم حتى الآن، ما دفع النائب العربي في الكنيست الإسرائيلي أيمن عودة إلى تقديم استجواب لوزير الأمن الإسرائيلي معتبرًا أن ما جرى هو عملية اختطاف.
حجارة جديدة
“بلال” الحاصل على الأوسكار لم يسلم من حجارة المستوطنين، كما لم يسلم من حجارة العرب الذين اتهموه بالتطبيع، لكنه إلى جانب ذلك متهم بأنه هو من قذف الحجارة على المستوطنين اليهود وفق بيان رسمي من جيش الاحتلال الاسرائيلي، وربما كانت قصة “بلال” وزميله “أبراهام” مع الاعتقال وتلفيق الاتهامات بداية معاناة جديدة ومستمرة ستجد طريقها حتمًا للتوثيق السينمائي، قد تدفع بهم مجددًا إلى منصات التتويج بما يعني مزيدًا من النجاح ومن تلقي الحجارة أيضًا.