التصوف في الدراما التركية “سر النفس”

“الحب أن تكون سعيدا حينما ترى المحبوب، المحبة عندما لا تراه، أما العشق فأن تكون سعيدا عندما تراه أو لا تراه”.
هكذا يلخص الشيخ قدسي التصوف في مشهد من أولى حلقات العمل الدرامي التركي “سلطان وفا” الذي بدأ عرضه قبل بداية شهر رمضان المبارك بأسبوع وعوض منه حتى الآن ست حلقات، وهو المسلسل الذي بدأ بإثارة كبيرة عندما اشترك في تمثيل مشاهده الثلاثة الأولى فريق التمثيل في مسلسل “محمد سلطان الفتوحات”، ويهتم الإنتاج الدرامي التركي بالأعمال التاريخية التي تتناول التاريخ العثماني، والأعمال التي تتناول الشخصيات الصوفية وتلازم وقائع بناء الدولة العثمانية، وتتلاقى الأحداث في سلطان وفا مع أحداث فتح القسطنطينية وما بعدها.
تكامل التاريخي والصوفي
في المشهد المشار إليه في أولى حلقات سلطان وفا يستدعي السلطان الفاتح الشيخ الصوفي الأشهر في عهده من حيث العلم والفقه والمكانة الصوفية إلى مجلسه فيخبره كبار العلماء ومشايخ الطرق الأخرى أن الشيخ لا يذهب إلى أحد، فيقرر السلطان أن يذهب إليه بحثا عن الإجابة عن أسئلة احتار فيها الجميع، ويصل إلى نزل الشيخ، ولأن الشيخ في خلوته يعتذر عن لقاء سلطان الفتوحات، ويتعجب الجميع من هذا الرفض لتبدأ قصة الملا مصطفى أهم عالم عربي في الدولة العثمانية بل وكل العالم في علم الفلك، وكيف كان هذا العالم وهو رئيس المعلمين في المدرسة العثمانية للعلوم مريدا ثم شيخا.
اقرأ أيضا
list of 4 items“بلبن”.. لماذا الإغلاق والتشميع؟
تسليم سلاح المقاومة!.. ماذا تبقى للوطن؟
مناجم الملح في سيوة.. كنز أبيض وسط الرمال
مسلسل سلطان وفا الذي يُعرَض الآن على شاشات تلفزيون الدولة التركية هو سادس عمل درامي أتابعه خلال أكثر من عامين من متابعات الدراما التركية، ومنها “مولانا” عن حياة جلال الدين الرومي ولقائه مع شمس التبريزي الذي غير من حياته فأصبح الرومي من أشهر المتصوفة، ويتناول المسلسل أعماله وأشعاره في أنحاء العالم وحياته قبل اللقاء مع معلمه وشيخه التبريزي وبعدها.
وتوالت المتابعة بعد هذا العمل فكان “يونس إيمره” الذي يتناول قصة القاضي الذي تحول إلى أشهر شعراء العشق ولا تزال أشعاره ملاذ المتصوفة المحبين حتى الآن، و”عبد القادر الجيلاني”، و”الملا نعمان” (أو حاجي بيرام)، و”محمود هدائي” القاضي الذي أصبح مريدا ثم شيخا من شيوخ المتصوفة، وها أنا الآن أتابع سلطان وفا في حلقاته الأولى.
يسير الخط الدرامي الصوفي بمحاذاة تاريخ بناء الدولة العثمانية في خطين دراميين للوهلة الأولى تظنهما متوازيين لكنهما متقابلان ولذا يلتقي شيوخ الصوفية مع السلاطين العثمانيين في التاريخ وفي الدراما وتظهر شخصيات منهم قبل التصوف أو بعده في مجالس السلطان. تجد ذلك مع يونس إيمره في مسلسل المؤسس عثمان، والرومي مع السلطان خسرو في بلاط الدولة السلجوقية في قونيا، وأق شمس الدين وسلطان وفا مع محمد الفاتح، ويحيى بكتاش مع سليمان القانوني، والملا نعمان مع السلطان بيزيد الثالث. تتركز قيمة التلاقي في التقاء الجانب الروحي ممثلا في الصوفيين والجانب الجهادي ممثلا في فتوحات الدولة العثمانية من البناء حتى السيطرة على خريطة العالم في عهد سليمان القانوني في القرن السادس عشر الميلادي.
سر العشق
الصراع مع النفس البشرية هو محور الانتقال الدائم في حياة العاشق فهناك دائما قلق يجتاح النفس البشرية يكون هو طريقها للوصول، تشعر أن لدى الشخصية حالة من الفراغ رغم كل ما يحيط بها من حياة ورغم ما حققته من مكانة علمية أو فقهية، فها هو قاضي قضاة الدولة السلجوقية تقلقه أشياء لا يدريها ولا تشبع نفسه، أو قاض في الدولة العثمانية يصل إلى مرتبة كبيرة، كما في قصص الرومي، وإيمره، وهدائي، وفي قصة الملا نعمان والملا مصطفى وصلا إلى رتبة كبير المعلمين في المدارس السلطانية.
لكن هناك شيئا دائما لا يكتمل في داخل النفس والقلب يجعل الرجل لا يستقر ويظل السؤال “أين الحقيقة؟” معه يؤرق ذاته. وفي هذه المكانة وتحت ظل علوم لا يحوزها إلا القليل تظل نفس الإنسان الأمارة بالسوء تجعل منه متكبرا بعلومه متعاليا على الناس مغرورا بعلمه، لا يتواضع مع الآخرين فهو الأعلم هو الأكثر فهما ولكنه لا يرتاح قلبه يسأل دائما: أين الحقيقة؟
في مشهد من العمل الدرامي سلطان وفا وبعد أن أعلن كبير المعلمين صاحب الشهرة في العلوم الفلكية عن حدوث خسوف للشمس وحدد توقيته يُفاجَأ بأن أحد مشايخ الصوفية يحدد له وقتا آخر، ويتحقق توقيت الصوفي ويخفق العالم بكل علومه ويظن أن هذا محض صدفة فمن أين لهذا الشيخ الذي يقضي ليله ونهاره في الذكر والتسبيح أن يعرف علوم الفلك؟ بعد ذلك يكتشف جهله حين يرى كتب علوم الفلك في مكتبة الشيخ.
لا يعتقد العالم مصطفى رئيس المعلمين أن علمه يخطئ وفي إحباطه وانكساره يسأله صديق: أين ترى علمك من علم الله؟ يتعجب من سؤاله فيطلب منه صديقه الإجابة، يرسم دائرة كبيرة وبداخلها نقطة صغيرة ويقول “الدائرة علم الله والنقطة علم الإنسان” يسأله صديق: أين علمك في هذه النقطة؟ يعرف الملا (المعلم في المدراس العثمانية يطلق عليه ملا) أن الكون أكبر من أن يحتويه بعلمه وعقله فقط وأن هناك طريقا آخر غير الغرور والكبرياء والتعالي، الأنا التي تلازمه دائما، الثقة الكاملة فيما يدعيه وفي علمه وعقله فيبحث عن الحقيقة، وكيف يصل إليها؟
هذا السؤال هو ما أرق كل هذه الشخصيات الرومي، وإيمره، وهدائي، ونعمان، ومصطفى، حتى شمس التبريزي الذي كان معلما لجلال الدين الرومي كانت حيرته في قلبه وما يدركه وأين يصب نهر المعرفة والعشق في قلب قادر على الوصول للإنسان في كل زمان، هذا السؤال جعل كل هؤلاء يخلعون عباءات الدنيا والمنصب، والجاه، والسلطة والمال ليذهبوا باحثين عن الحقيقة، العشق، سكون النفس وخلاصها من الأطماع. في البداية ينظر كل منهم إلى شخص شيخه متكبرا متعاليا على الرجل الذي ترك مظاهر الدنيا ويتحرك برداء الدرويش، يظن أنه أعلم منه، أفقه منه، أعلى مكانة، أكثر سلطة ومالا، وعندما يدرك الحقيقة يذهب ليجلس بين يديه يتعلم ويبحث عن الحقيقة، يبحث عن نفسه التي لم تملأ فراغها الدنيا.
الصراع مع غرور الذات
يدرك الشيخ أن القادم إليه محملا بحب الدنيا ومظاهرها، يحمل في داخله أمراضها التعالي، والكبر، والغرور، والأنا التي لا تفارقه، ولا يدرك المريد أن محطة الوصول في التخلي عن كل هذا، لكن تظل نفسه تصارع ذلك لا تحتمل أو تصارع قلبه في الوصول: ماذا تفعل؟ لماذا وصلت إلى هذا السقوط، أنت قاض كبير الرومي، إيمره، هدائي، أنت كبير المعلمين الذي لا يضاهي علومه أحد، كيف تقبل هذا؟
عندها يدرك الشيخ أن على المريد أن يخلع عباءة الدنيا بمغرياتها، وعندما يخلعها لا يكون ذلك شكليا أو ظاهريا فقط، ويدرك الشيخ أن امتحان مريده الذي سيصبح كوكبا مضيئا في دنيا الإنسانية والعشق عسيرا وصعبا، ويظل المريد يكافح النفس ويدخل امتحانها ينجح حينا ويرسب أحيانا أخرى، وفي كل امتحان قد يعود للرداء وينسى شيخه وقد يحتمل، الواقع أنه عندما يكون ثمن العشق هو ترك ملذات الحياة يصبح امتحانك أشق وأصعب.
يطلب شمس التبريزي من قاضي قضاة قونيا الذي يسير في موكب مهيب أن يذهب إلى الحانة ويشتري الخمر التي هي محرمة شرعيا وفقهيا، ثم يتجول في الشارع ليبيعها، يطلب تبوك إيمره من يونس أن يبحث عن كلب التكية في شوارع المدينة ويجري خلفه من حارة إلى حارة ومن دكان إلى دكان، وهو القاضي الذي دخل المدينة في موكب كبير، ويطلب صامونجي بابا من الملا نعمان أن يقوم مقام الحمار في شد عربة الخبز.
تلك الصدمات الكبيرة لم تكن سوى تدريب الشيوخ للمريدين على كسر أنفسهم أمام الجميع تلك النفس التي لا بد من كسرها لتعرف طريق الوصول، هذا الطريق للعشق الإلهي الذي يضيء العلوم والمعارف ويحولها إلى أداة للتواصل الحقيقي، وفي هذا صراع كبير غضب منه يونس إيمره وعاد إلى طريقه قاضيًا، غضب نعمان رئيس المعلمين ومسؤول قصر السلطان ولم يحتمله، ثم تردد، ثم احتار، وتاه في بحثه عن الحقيقة والطريق.
في كل حالة من الحالات كان الأمر امتحانا صعبا، ولذا فالعودة إليه تعني النجاة، فيعود مرة أخرى إلى شيخه ليدخل امتحانا جديدا للنفس، هكذا يتخلص من رداء الوظيفة الكبرى، يخلع عنه مكانته بين العامة، يخلص من شوائب الدنيا ومظاهرها وأدرانها ليدخل إلى الباب الأهم والأفضل للإنسانية فكل تلك المظاهر لا تجعلك تنسى قوله تعالى {إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا}، عندما تدرك هذه الحقيقة وعندما تعلم أنك مهما علمت وتعلمت وقرأت وتفكرت فلن تكون أكثر من ذرة في نقطة صغيرة في دائرة كبيرة هي علم الله، عندها فقط تبدأ الطريق إلى محطة الوصول.