تونس الموءودة السجينة

” رمضانكم مبروك” ..
كنت أتمنى أن أقولها بحلول الشهر الكريم لأصدقائي ومصادري الصحفية بتونس كلهم، وعلى خلاف انتماءاتهم ومواقفهم.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsورحل أبو إسحاق الحويني
الحرية والعدالة وأوهام “دون كيشوت”
التلاعب بالأقليات في سوريا
لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه، فاليوم 4 مارس/آذار 2025، تبدأ محاكمة أربعين من نخبة البلد، بينهم العديد من الأصدقاء والمصادر، بتهمتي “التآمر على أمن الدولة” و”الانتماء لتنظيم إرهابي”. أمضى معظمهم في الحبس ما يزيد على عامين، وما زال من جرى إطلاق سراحه على ذمة القضية رهن الإقامة الجبرية والمنع من السفر، في حين يظل آخرون خارج البلاد.
وقع ثقيل
وسمعة غير طيبة
لقضايا أمن الدولة في تاريخ تونس، قبل الاستقلال وبعده وقع ثقيل وسمعة غير طيبة. وانطلاقا من 1968 استدعاها الزعيم الرئيس بورقيبة من التراث الاستعماري البغيض، وأنشأ لها محكمة بهذه التسمية، وذلك لضرب الحركة الطلابية واليسارية، التي تزامن صعودها مع موجة أوروبية عالمية تتحدى النظامين الرأسمالي والاشتراكي، لإخفاقهما ديمقراطيا وتغولهما على الإنسان وسحقه. ثم توالى هذا الاستدعاء في مناسبات عديدة، وأطبقت بمظلامها على إسلاميي النهضة خلال الثمانينيات والتسعينيات.
لو تأملنا مسار هذه المحاكمات لخرجنا باستخلاص عام مفاده أن جر الناس إلى المحابس والمحاكمات، ثم الأحكام القاسية والسجون بالسنوات تحت عنوان “التآمر على أمن الدولة”، قرين بسياسات استبدادية تترجم بلوغ النظام الحاكم ذروة أزمة في علاقته بالمجتمع.
في السياق الأعم، ليس لهذه المحاكمات سمعة حسنة، في العالم العربي إجمالا؛ لأنها تعبير عن أنظمة مأزومة، ضاقت خياراتها، وطاشت قراراتها، وأصيبت بجفاف سياسي وتضخم أمني، ولا تجد أمامها إلا الاتكاء على هذه المحاكمات لتخويف المجتمع بأسره، وليس معارضيها فقط.
بين عبد الحميد والغنوشي
قبل أيام، شاهدت فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي للنائبة في مجلس نواب الشعب منية إبراهيم زوجة الصديق عبد الحميد الجلاصي المحبوس على ذمة القضية إلى اليوم. وتألمت لأنها صرحت بعودة مرض سرطان الحنجرة إليه، الموروث من معاناة 17 سنة في سجون ما قبل الثورة.
تألمت لتصريح الزوجة، لأنني طالما التقيته بتونس، وتحدثنا مرارا فلم أسأل يوما ولم يصرح هو بسرّ هذه البحة، التي تطبع وتوهن صوت هذا الكاتب والسياسي المتفتح الفكر والآفاق، والناقد لحركة النهضة والمستقيل منها، المتطلع لتونس حرة متقدمة.
الثورة المضادة العائدة، بعنوان “استعادة هيبة الدولة”، لا تفرق في بطشها بين عبد الحميد وراشد الغنوشي مؤسس النهضة ورئيسها رئيس البرلمان، والعديد من نقاده وخصومه. ولا تقدير لمكانة الرجل عالميا ولا لتقدمه في السن إذ جاوز 83 سنة. ولا اعتبار ولا حسابات فكرية أو سياسية أو برغماتية، لخطورة ضرب رمز واحدة من أهم محاولات التقدم نحو إسلام معتدل ديمقراطي متسامح بالعالم العربي، بصرف النظر عن أخطاء الغنوشي ومن حوله، وأيضا من كاد لهم أو ما زال.
من المؤسف المدهش، أن تضم قائمة المتهمين كمال الجندوبي رئيس فريق الأمم المتحدة للتحقيق في أوضاع حقوق الإنسان باليمن وأول رئيس للهيئة المستقلة للانتخابات بعد الثورة، الذي عاد إلى الإقامة خارج تونس. ولن أنسى له التفضل باصطحابي ليلا في جولة إلى أحياء مدينة تونس الشعبية عشية أول انتخابات حرة خريف 2011، كي يثبت لصحفي قادم من القاهرة كذب دعاية الثورة المضادة بالخارج بأن البلد غير آمن.
نظرة إلى قائمة ضحايا
محاكمة اليوم
ظروف محاكمة ما يسمى بالتآمر على أمن الدولة حالها من أحوال القضاء المريض بالتبعية للسلطة والتوظيف السياسي وانتهاك القوانين والحقوق وأبسط شروط العدالة وإجراءاتها. وقائمة الانتهاكات طويلة ولا تتوقف من منع النشر إلى سرية الجلسات، مرورا بتصريح رأس السلطة التنفيذية (رئيس الدولة) بأن المتهمين “متآمرون ومجرمون ومن سيتولى تبرئتهم شريك لهم”. وأضف إلى كل هذا، فرار قاضي التحقيق في القضية إلى الخارج بأسراره وأسرارها.
المحبوسون في القضية تجاوزوا مدة الحبس الاحتياطي بتونس (14 شهرا) كحال أستاذ القانون جوهر بن مبارك نجل الصديق اليساري عز الدين الحازجي. أما من تم الإفراج عنهم فأصبحوا رهائن المنع من السفر والأماكن العامة كالأزهر العكرمي من مؤسسي “نداء تونس”، الذي روى لي يوما ما ماضيا يفخر به من الحضور والعلاقات مع المشرق العربي ومنظمة التحرير الفلسطينية. وثمة من يلوذ بالبقاء في الخارج كالصديقة بشرى بلحاج حميدة رئيسة لجنة الحريات الفردية والمساواة، التي وضعت في 2018 تقريرا بالغ التقدمية بالنسبة لمحيطه العربي بتكليف من المرحوم الرئيس السابق السبسي.
النظر إلى قائمة أسماء المتهمين في القضية مع التصنيف والتحليل ينتهي إلى أنها تضم 6 نساء، و13 من خصوم النهضة، و2 من المنشقين عنها، و7 من النهضة، و4 ممن كانوا خصوما ونقادا لها ثم تحالفوا معها في “جبهة الخلاص الوطني” المعارضة للرئيس قيس سعيد، فضلا عن اثنين ممن اختارهم سعيد نفسه معاونين له (مديرة للديوان الرئاسي وسفير)، و3 من قيادات صناعة الإعلام والصحافة.
حصاد تراجع خطير
من تحصيل الحاصل القول بأن هذه المحاكمة تفتقد لأبسط شروط العدالة، والمنطق والعقل والمصداقية. وهي بالعديد من الدلائل حصاد هذا التراجع الخطير الذي ضرب مسيرة القضاء التونسي غير الناجزة نحو الاستقلالية بعد الثورة، والعودة لإرهاب القضاة المستقلين، واستبعادهم وملاحقتهم، فضلا عن تقويض مؤسسات وتنظيمات القضاء والقضاة لحساب حكم الفرد.
السياق العام بمجمله، من توظيف للأمن والنيابات والقضاء والإعلام العمومي، للنكوص عن مكتسبات ديمقراطية للثورة وفي إدارة السلطة للخلافات والصراعات السياسية، هو بمثابة إساءة للدولة التونسية، ولنضالات التونسيين الأحرار، منذ أول دستور في بلد عربي ومسلم 1861، ينظم السلطات والحقوق والحريات العامة، ويسعى لكبح جماح الحاكم.
الثعالبي والتآمر
على أمن الدولة
خلال 1919، عام الثورة المصرية وفي أعقاب الحرب العالمية الأولى، أصدر الشيخ عبد العزيز الثعالبي باعث الحركة الوطنية الديمقراطية المدنية المنفتحة على التراث والعصر كتابا من باريس بعنوان “تونس الشهيدة”. وتضمن هذا الكتاب تشخيصا للمسألة التونسية في السياق الاستعماري الفرنسي ولسمات الاستبداد وعواقبه، وسبل العلاج. وهو يستحق اهتماما يليق به في المشرق العربي، على غرار كتاب “طبائع الاستبداد” للكواكبي، الذي أعادته الانتكاسات غير الديمقراطية ببلادنا إلى الأضواء، وقد بدأت بوأد المسار العسير إلى الديمقراطية بتونس.
لم يغفل كتاب الثعالبي المناداة بإصلاح القضاء، والمطالبة بإلغاء تهمة التآمر على أمن الدولة والمحاكم الاستثنائية، التي عادت إلى تونس اليوم. وفي هذا ما يفيد بكفاح الشعب التونسي مبكرا من أجل قضاء مستقل عادل ذي مصداقية.
“بتونس الشهيدة” أيضا ما يضيء على إشاعة سلطة الاستعمار للخوف والإرهاب. وقد كتب الثعالبي بجرأة عن “شبكة جواسيس وبوليس محكمة التنظيم تضيق على الفكر والرأي وتلاحقهما”، مع عبارته الجوهرة: “الوشاية تزدهر في الحكم المطلق”. وهو ما تعود إليه تونس، بعدما قطعت أشواطا في التحرر منه، وكما كنت شاهدا عليه في الفضاءات العامة وبين الناس خلال عشرية ما بعد الثورة.
لم يمنع اعتقال المستعمر الفرنسي للثعالبي، وترحيله محبوسا إلى بلده مخفورا بتهمة التآمر على أمن الدولة، من تأسيسه في العام التالي مباشرة 1920 للحزب الدستوري الحر، وقبل الإفراج عنه 1921. وهذا الحزب وضع لبنة التنظيم السياسي الرئيس للحركة الوطنية، الذي ظل يكافح المستعمر، حتى الاستقلال 1956. وفي هذا درس مفاده أنه مهما بلغ الظلم والقمع فسيخيب مسعى الطغاة.
*
اليوم يواجه أحفاد الثعالبي، على تنوع مدارسهم ومشاربهم واختلافاتهم الفكرية والسياسية وحتى أخطائهم وضغائنهم، ذات التهمة الذي لاحقه الاستعمار بها: التآمر على أمن الدولة.
يعيش الثعالبي بعد ما يزيد على قرن كامل مقدرا في وجدان شعبه، وتاريخ بلاده والعالمين العربي والإسلامي، فمن يتذكر سجانيه؟
أما الزبد فيذهب جفاء، ويبقى ما ينفع الناس أمس واليوم وغدا.