مسلسل معاوية “مكانة الصحابة” 4/1

يصطفي الله تعالى من الملائكة رسلا ومن الناس، وهذا الاجتباء والاصطفاء هو محض فضل الله على خلقه، قال تعالى: {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (الأنعام: 124).
وتتسع دائرة الاصطفاء لتشمل المكان والأعوان، والدليل أن يثرب التي اشتهرت بالحمى والأمراض المتوطنة، طابت بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرك والمرض، وأصبحت طيبة الطيبة، ونورت به حيا وميتا فهي المدينة المنورة، وكذلك الجيل الفريد الذي بني عليه الأساس الأول، ثم حمل الدعوة إلى الدنيا ونشرها بين الناس، لذا فضلهم رسول الله ﷺ على كل من صحبوا الأنبياء قبله، عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال: “خيرُ الناسِ قَرني، ثُمَّ الذينَ يَلُونَهُم، ثُمَّ الذينَ يَلُونَهُم،….”.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsمصطفى حسني ومبروك عطية بين إسلام السوق والابتذال
التصوف في الدراما التركية “سر النفس”
البحث عن الأمل في غزة
قال الإمام النووي رحمه الله: الصحيحُ أنَّ قَرْنَهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: الصحابةُ، والثاني: التابعون، والثالثُ: تابعوهم”
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في مجموع الفتاوى: “قوله: (خير الناس) دليل على أن قرنه خير الناس، فصحابته صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أفضل من الحواريين الذين هم أنصار عيسى، وأفضل من النقباء السبعين الذين اختارهم موسى صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وفضل الصحبة لا يناله أحد غير الصحابة ولا أحد يسبقهم فيه، وأما العلم والعبادة، فقد يكون فيمن بعد الصحابة من هو أكثر من بعضهم علما وعبادة”.
والصحبة درجة تجعل لصاحبها في الإسلام مكانة عالية ومنزلة سامية، وتحيطه بسياج من الحصانة، وتضفي عليه صفة العدالة، وهي من تجليات الاصطفاء الرباني لهذه الطائفة من خلقه، ومردها إلى رؤية رسول الله ﷺ مع الإيمان برسالته، قال الإمام ابن حجر -رحمه الله-: (وأصح ما وقفت عليه من ذلك، أن الصحابي من لقي النبي ﷺ مؤمنا به، ومات على الإسلام، فيدخل فيمن لقيه: من طالت مجالسته له أو قصرت، من روى عنه أو لم يرو عنه، ومن غزا معه أو لم يغز، ومن رآه رؤية ولو لم يجالسه).
معية رسول الله ﷺ هي الوصف الذي خصهم به القرآن الكريم: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الفتح: 29).
وجلى هذا الاصطفاء والتكريم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بقوله: “إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه، فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد، فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسنا فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئا فهو عند الله سيئ” رواه أحمد في “المسند” وقال المحققون: إسناده حسن.
وعد أهل التفسير الخوض في الصحابة والاستهزاء بهم من الجنايات التي لا تُغتفر، كما جاء في سبب نزول قوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} (التوبة: 65-66).
قال الحافظ ابن كثير: “عن عبد الله بن عمر قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلسه: ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطونًا، ولا أكذب ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المسجد: كذبت، ولكنك منافق، لأُخبرن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبلغ ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ونزل القرآن”، أي بآيات سورة التوبة.
ومع ثبوت خيرية هذه الأمة: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ ۗ } (آل عمران: 110).
فإن هذه الخيرية والأفضلية حاز قصب السبق فيها الجيل الأول، وتلاهم في الفضل من تابعهم بإحسان:
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة: 100).
ومن قديم كان مدخل المنافقين إلى ذم النبي الأمين ﷺ من خلال التعرض لأصحابه، ونبه على ذلك مبكرا إلإمام مالك بن أنس رحمه الله، فقال: إن هؤلاء أقوام أرادوا القدح في رسول الله ﷺ فلم يمكنهم ذلك، فقدحوا في أصحابه حتى يقال: رجل سوء، ولو كان صالحا لكان أصحابه صالحين”.
ويظهر هذا المسلك في توجيه السهام إلى السيدة عائشة أكثر من غيرها من أمهات المؤمنين، والترصد لأبي هريرة دون غيره من الصحابة، ومرد ذلك لأنهم رواة السنة، وأقرب إلى رسول الله ﷺ من غيرهم في هذا الباب، ومن المدخل نفسه ولجوا إلى معاوية بن أبي سفيان لأنه من كتبة الوحي لرسول الله ﷺ وصهره، فأخته أم المؤمنين أم حبيبة بنت أبي سفيان، واختاره عمر بن الخطاب أميرا على الشام إحدى أهم ولايات الإسلام، وظل يحكمها عشرين سنة.
مسلسل معاوية
والجولة الجديدة الآن تتزعمها بعض القنوات الفضائية التي أنتجت مسلسلا يذاع في رمضان عن سيرة معاوية ومسيرته، وأولى الطوام أن كاتب المسلسل صحفي، كل مؤهلاته السابقة انحصرت في إدارة موقع إخباري ضمن أذرع السلطة في الإعلام، ولم يُعرف عنه عناية بالتاريخ الإسلامي، أو دراية بالسيرة وتاريخ الخلفاء، وداخل الجماعة الصحفية لا يخفي انحيازه إلى الجهات الأمنية التي يعبّر عنها، فكيف يؤتمن غير متخصص -على أقل تقدير- على خوض غمار أحداث الفتنة وتوجيه الجماهير.
وصف المرحلة التي يتعرض لها مسلسل معاوية بأحداث الفتنة، وصف متفق عليه بين أهل هذه الملة، لذا وجدنا من اعتزلها من البداية من الصحابة الأعلام وأصحاب الأفهام كعبد الله بن عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص، ثم يأتي إخباري مع مخرج وممثل ليشكلوا وعي المشاهدين حول هذا الأمر الخطير، ومثل هذه الأحداث لا يتناولها أهل الاختصاص إلا لبيان الدروس المستفادة، وتحصين الناس من الشبه دون نفخ في رمادها، أو سعي لإيقاد جذوتها، ومع الفقر في تخصص الكاتب، والشك في بواعث الناشر، فإننا لم نسمع عن جهة علمية أو أفراد من أهل الشأن، اطلعوا على النص ومن ثم أجازوه، كما حدث في أعمال سابقة، وعلى رأي من قال منهم بجواز تمثيل الصحابة الكرام وآل البيت الأطهار، فإنهم وضعوا ضوابط لذلك التمثيل، أهمها أن يكون في مقام إبراز القدوات الصالحة، والبعد عن الإسفاف، واعتماد الروايات الصحيحة، ومن خلال ما كتب عن المشاهد الأولى لهذا المسلسل اتضح مخالفته لمعايير من قال بالجواز من المعاصرين، فالعورات مكشوفة والزينات فجة، والرسائل ملغومة مسمومة، وإلا فأي فائدة تعود على المشاهد من مشهد تمثيل هند أم معاوية وهي ترضعه على سريرها، فإن مكارم الجاهلية تأنف عن كشف العورات وظهور المستورات، ناهيك عن مبادئ الإسلام، وهند بنت عتبة هي الصحابية التي سمعت البيعة القرآنية من رسول الله ﷺ {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ ۙ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ ۖ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الممتحنة: 12) فقالت: أو تزني الحرة؟!
وأكد ذلك الأكاديمي المتخصص في التاريخ الإسلامي د. عبد الله معروف بعد مشاهدته للحلقة الأولى من المسلسل، كعينة للتقييم من الناحية التاريخية، فقال في منشور له على وسائل التواصل:
“من الواضح أن الكاتب لا يعرف من التاريخ إلا ما يجده في بعض الكتب الحديثة، فقد أظهر في بداية المسلسل أن معاوية رضي الله عنه وُلد في العام الثالث عشر قبل الهجرة (أي في السنة الأولى للبعثة)، وهذا كلام غير صحيح، لأن معاوية رضي الله عنه كان في الخامسة من عمره عند بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وبالتالي فقد وُلد في العام الثامن عشر قبل الهجرة، فالفارق خمس سنوات كاملة. كما أن المؤلف “الجاهل” جعل حادث الهجرة إلى الحبشة في العام الرابع قبل الهجرة، أي العام التاسع للبعثة الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في شِعب أبي طالب خلال المقاطعة، بينما يعرف أصغر طالب في التاريخ الإسلامي أن هجرة الحبشة حدثت في العام الخامس للبعثة، فكيف خلط هذا الكاتب كل تلك الأحداث بهذه الفظاظة؟!
بحثت بعد مشاهدة الحلقة عن مؤلف المسلسل فوجدته صحفيا مصريا لا علاقة له بالتاريخ من قريب أو بعيد. أ.ه”.
ومما يشين هذا العمل أن من يقومون بأدوار الصحابة والصحابيات فيه، أناس لهم تاريخ في العري والفن المكشوف، ويظهرون في الوقت نفسه في أدوار أخرى يمثلون أدوار الشواذ والمخمورين، وهذا يجعل التبعة على المؤسسات العلمائية الرسمية عظيمة، في أداء دورها في صيانة التراث الإسلامي من العبث، وتاريخ الصحابة من التحريف والتدليس، واتخاذ الإجراءات القانونية لمنع ذلك. وعلى عامة المسلمين مقاطعة هذه الأعمال وترك مشاهدتها من باب أدنى درجات إنكار المنكر، وظهور هذا العمل يحتم على العلماء والمختصين نفي الزيف، وبيان وجه الحق، وإثبات الروايات الصحيحة، وأسأل الله أن يستخدمنا في ذلك.