الدولة الكردية.. الحلم المستحيل

الزعيم الكردي عبد الله أوجلان (الفرنسية)

على مدار أكثر من مئة عام لم يتوقف نضال الشعوب الكردية من أجل وطن كردي، أسوة ببقية الدول القومية في المنطقة من عربية وإيرانية وتركية إلخ. دفع الأكراد خلال تلك السنوات الطويلة فاتورة كبيرة، واستنزفوا أيضا دماء عشرات الآلاف من خصومهم العرب والترك والفرس إلخ، وأصبحوا مثل سيزيف في الأسطورة الشهيرة كلما اقترب من حلمه (الوصول إلى نهاية الجبل حاملا صخرته) سقطت منه الصخرة ليبدأ المشوار من جديد، إنها عبثية السياسة التي لن تسمح للأكراد بأن يقيموا دولة رغم أن ذلك حلم مشروع.

قبل أسبوع (الخميس 27 فبراير/شباط)، شهدت القضية الكردية حدثا كبيرا، عبر دعوة الزعيم التاريخي للأكراد في تركيا عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون حاليا إلى حل الحزب، وإلقاء السلاح، والدخول في مفاوضات سلام جادة مع الدولة التركية للعيش وفقا لقوانينها.

مبادرة أوجلان للسلام

دعوة أوجلان التي تلاها نواب أكراد في البرلمان التركي في مؤتمر صحفي جاءت استجابة لمبادرة سلام أطلقها دولت بهشتلي زعيم حزب الحركة القومية التركي المناوئ الرئيسي للأكراد، وهي دعوة لاقت دعما من رئاسة الدولة التركية، إن لم تكن بإيعاز منها، وقد تنوعت ردود الفعل الكردية على مبادرة أوجلان، لكن غالبيتها كانت داعمة، ومن ذلك رسالة زعيم حزب الشعوب الكردي صلاح الدين دمرتاش المحبوس حاليا (محكوم بـ42 سنة) بتهمة التعاون مع أوجلان.

أُسّس حزب العمال الكردي PKK  في عام 1978 على يد أوجلان، ليبدأ معركة دامية مع الجيش التركي من أجل تأسيس وطن مستقل للأكراد. وعلى مدى 47 عاما من المعارك، قتل الحزب أكثر من 40 ألف شخص، ودمر أكثر من 3 آلاف قرية وتسبب في تهجير سكانها، لكنه اكتشف في النهاية أن حلم الوطن المستقل مستحيل التحقيق، فخفف مطالبه إلى المطالبة بحكم ذاتي ومزيد من الحقوق المدنية للأكراد، وحتى فكرة الحكم الذاتي سيكتشف الحزب أنها غير قابلة للتطبيق، وسيضطر إلى قبول بعض التحسينات في حقوق الأكراد، التي بدأ حزب العدالة والتنمية بقيادة أردوغان تنفيذها بالفعل منذ وصوله إلى الحكم عام 2002، ولذا فإن الحزب يحظى بأصوات كثيرة في المناطق الكردية.

الحكم الذاتي بين العراق وسوريا

على الجانب الآخر من الحدود التركية حيث يوجد أكراد سوريا في المناطق الشمالية الشرقية لسوريا، الذين يرتفع صوتهم حاليا في مواجهة مساعي دمشق لإدماجهم بشكل كامل في الدولة السورية بما يعنيه ذلك من حل ميليشياتهم العسكرية (قسد) وغيرها، واندماجها ضمن الجيش الوطني، لم يدعُ أكراد سوريا علنا إلى دولة كردية مستقلة، لكنهم يريدون الحفاظ على وضع إدارة ذاتية الحكم، وهذه الإدارة الذاتية اكتسبوها نتيجة انسحاب قوات نظام الأسد من مناطقهم بعد عام من اندلاع الثورة السورية حتى يتفرغ لقتال فصائل الثورة، كما أدى أكراد سوريا دورا مهما في مواجهة تنظيم داعش، ما أكسبهم دعما أمريكيا متواصلا حتى الآن، وإن كان من المحتمل أن يسحب ترامب القوات الأمريكية من مناطق الأكراد في أي لحظة.

الحالة الكردية الأكثر نضجا في العراق حيث يتمتع الأكراد بحكم ذاتي، كما يحتفظون بموقع رئيس الجمهورية العراقية وفقا لمحاصصة قننها الدستور العراقي عقب سقوط نظام صدام حسين، وقد نالوا هذه الحقوق بعد نضال طويل باتفاق مع نظام صدام حسين أولا، ثم بفرض أمر واقع عقب الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، أما في إيران فإنهم تحت ضغط دائم.

حلم قتلته السياسة

رغم أن إقليم كردستان يصلح جغرافيا لإقامة وطن قومي للأكراد، لكنه عمليا مقسم بين خمس دول، هي تركيا التي يمثل الأكراد من 15-20% من سكانها، والنسبة ذاتها في العراق، وسوريا التي يمثل الأكراد من 7-10% من سكانها، وإيران التي يمثل الأكراد 6% من سكانها، أما النسبة الأقل ففي أرمينيا 1.3%، ويبلغ عدد الأكراد في كل تلك الدول نحو 40 مليونا ينتمون إلى العديد من المذاهب وإن غلب عليهم المذهب السني.

لم يشعر الأكراد بأي مشكلة في عصور الحكم الإسلامي قبل ظهور الدولة القومية الحديثة التي وضعت حدودها اتفاقية “سايكس بيكو” عام 1916، بل إنهم أقاموا دولة إسلامية هي الدولة الأيوبية التي تنتسب إلى القائد صلاح الدين الأيوبي وخلفائه من بعده، والتي اتخذت من مصر مقرا لها، وامتدت لتشمل الشام والحجاز واليمن والنوبة، وبعض أجزاء بلاد المغرب، لكن الحلم الكردي بدولة قومية حديثة ظهر بقوة مطلع القرن العشرين، وكانت الفرصة سانحة لتحقيق ذلك الحلم ضمن التوافقات الدولية في ذلك الوقت للدول لكن تقلبات السياسة قتلته.

بعد هزيمة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، انتعش الحلم الكردي في إقامة دولة مستقلة، ووضع الحلفاء الغربيون المنتصرون في الحرب تصورا لدولة كردية في معاهدة سيفر عام 1920، لكن الحلم تبخر بعد 3 سنوات فقط بعقد اتفاقية لوزان التي وضعت الحدود الحالية للدولة التركية بشكل لا يسمح بقيام دولة كردية.

فيتو إقليمي وخلاف فصائلي

لم يتوقف النضال الكردي على مدى العقود الماضية وخاصة في تركيا وإيران والعراق، لكنَّ “فيتو” إقليميا ودوليا يحول دون تحقيق حلمهم، فدول الإقليم التي تضم أكرادا رغم ما بينها من عداوات فإنها تتفق جميعا على عدم السماح باستقلال كامل للأكراد في أي دولة، ذلك أن استقلالهم في دولة ما، وتأسيسهم وطنا قوميا، سيشعل النار في بقية الأقطار.

وإضافة إلى “الفيتو” الإقليمي والدولي فإن الخلافات بين الفصائل والأحزاب الكردية تمثل عائقا أيضا أمام حلم الوطن المستقل، فغياب الخطاب التركي المتماسك، وتشرذم القيادة الكردية، وتصاعد الخلافات الشخصية بينهم على مناطق وحجم النفوذ والثروة أفقدهم المصداقية دوليا، وجعلهم محض ورقة على طاولات السياسة الدولية، تقايض بها القوى الكبرى مصالحها مع آخرين.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان