فوز “لا أرض أخرى” بالأوسكار.. يجسد الهم الفلسطيني فلماذا يهاجمونه؟!

من الفيلم الفائز بجائزة الأوسكار (منصات التواصل)

بعد عقود من تهميش السردية الفلسطينية في الجوائز السينمائية العالمية، فاز الفيلم الوثائقي “No Other Land” (لا أرض أخرى) بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي طويل لعام 2025.

الفيلم الذي تم إنتاجه بميزانية محدودة وهو إنتاج فلسطيني نرويجي مشترك، يمثل شهادة حية على معاناة الفلسطينيين تحت الاحتلال الإسرائيلي، ويروي قصة التهجير القسري للفلسطينيين في منطقة مسافر يطا بالضفة الغربية، ويأتي فوز الفيلم  في فترة حساسة جدًّا للاحتلال الإسرائيلي، خاصة مع ما تشهده مناطق الضفة حاليًّا من تهجير قسري للأهالي وتدمير للبنية التحتية، تحت صمت وتواطؤ دولي.

يوثق الفيلم الذي أخرجه الفلسطينيان باسل عدرا وحمدان بلال، والإسرائيليان يوفال أبراهام وراحيل تسور، الواقع اليومي للانتهاكات الإسرائيلية من خلال عدسة الناشط باسل عدرا، الذي استغرق سنوات في تصوير مشاهد معاناة الفلسطينيين في قريته، لينقل إلى العالم عمليات الهدم والاعتداءات التي يعانيها الأهالي.

انتصار السردية الفلسطينية

وبعيدًا عن الدعاية الرسمية الصهيونية التي تحاول تصوير الصراع من زاوية أحادية، يأتي هذا الفيلم برواية مختلفة وبصور واقعية تجسد فظاعة الاحتلال، وتروي كيف أن الحياة البسيطة الآمنة لأي إنسان على وجه الكوكب، هي حلم لدى كل فلسطيني، يصعب تحقيقه في ظل الاحتلال، إذ عكست كلمات باسل عدرا، التي ألقاها في حفل تسلّم الجائزة، حلم أي أب بسيط في أن لا تعيش ابنته المأساة التي عاشها، عندما قال: “أملي الأكبر هو ألا تضطر ابنتي للعيش في نفس الظروف التي عشتها”، أما يوفال أبراهام، الذي كان جزءًا من هذا العمل الفني الهام، فقال: “أنا حرّ بموجب القانون المدني، بينما باسل يعيش تحت قانون عسكري يقيد حياته ويهدم مستقبله. لا يمكن أن يكون هناك سلام حقيقي دون مساواة وحقوق متكافئة لكلا الشعبين”.

غضب إسرائيلي

ويبرز التأثير الذي تركه الفيلم في دولة الاحتلال، في الغضب الظاهر في كلمات وزير الثقافة الإسرائيلي ميكي زوهار، الذي قال إن فوز الفيلم يعتبر لحظة حزينة للسينما لأنه -على حد تعبيره- “يشوه صورة إسرائيل عالميًّا”. كما تعرض يوفال أبراهام وعائلته لتهديدات من متطرفين إسرائيليين لمشاركته في الفيلم الذي انتقد الاحتلال وطالب بوقف الحرب على غزة.

وأمام هذا الفوز الذي لا بد أن نعترف بأنه إنجاز حتى لو كان منقوصًا لكونه ليس عملًا فلسطينيًّا خالصًا، ولا بد أن نسأل هل بدأ العالم الاستماع إلى رواية أخرى للصراع الفلسطيني الإسرائيلي؟

قبل الإجابة، يجب أن نذكر الفيلم الذي أعدته “بي بي سي” عن معاناة غزة مؤخرًا والذي منع بثه رضوخًا للإملاءات الإسرائيلية، لنعلم أن العالم ما زال بعيدًا عن الحيادية حتى في نقل الواقع، وهذا ما ينطبق أيضًا على صناعة السينما، وخاصة هوليوود، تلك التي تخضع لنفوذ اللوبيات الصهيونية، حيث يتم تصوير الاحتلال الإسرائيلي دولةً محاصرة تدافع عن نفسها ضد “الإرهاب الفلسطيني”، بينما يتم تجاهل الانتهاكات المستمرة بحق الفلسطينيين. لكن هذا الفيلم نجح في كسر هذه السردية التقليدية، وأجبر الأكاديمية الأمريكية على الاعتراف بحقيقة ما يجري على الأرض.

فالفيلم لا يعرض فقط المعاناة الفلسطينية، بل يقدم أدلة من الواقع على إصرار الفلسطيني على التمسك بأرضه رغم كل الجرائم الصهيونية، فعنوان الفيلم يعبر عن الحقيقة الأساسية التي يعيشها الفلسطينيون منذ النكبة، تلك التي تؤكد أن فلسطين ليست مجرد أرض، بل هي وطن لا يمكن استبداله.

شاهد من أهله

في الحقيقة أن “لا أرض أخرى”، كشف مزاعم إسرائيل حول ديمقراطيتها، ليزيح الستار عن جرائمها ليس فقط في غزة وإنما في الضفة، كما أن مشاركة إسرائيليين في صناعته زادت من مصداقيته لدى الجمهور الغربي وفقًا لمقولة “وشهد شاهد من أهله”؛ مما صعّب على الإعلام المؤيد لإسرائيل تجاهله أو التشكيك في مصداقيته.

ورغم النجاح الدولي للفيلم، فإن عرضه داخل الولايات المتحدة يواجه عراقيل كبيرة، حيث قاطعته أغلب سلاسل دور السينما الكبرى، ولم يُعرض إلا في عدد محدود من دور العرض المستقلة، وهو ما يعكس النفوذ القوي للجماعات المؤيدة لإسرائيل في صناعة الترفيه الأمريكية.

تطبيع أم تحقيق الممكن؟

صحيح أن الفيلم فرض السردية الفلسطينية في الغرب، وهو هو ما يستحق الإشادة، إلا أنه خلف وراءه انقسامًا في الآراء الفلسطينية والعربية حول فكرة تعاون المخرج الفلسطيني مع ناشطين إسرائيليين، فالبعض اعتبره تطبيعًا لا يمكن القبول به وآخرون اعتبروه حيلة ذكية لتحقيق الممكن بما هو متاح، وعلى أي حال فلا يمكن النظر إلى هذا العمل بمعزل عن السياق الأمني الخانق الذي صور فيه، والذي أتاح له الوصول إلى هذه المنصة العالمية.

وهنا، يمكن الإقرار بموهبة عدرا وجهوده الاستثنائية، وفي الوقت ذاته الاعتراف بحقيقة أن الرواية الفلسطينية لا تُمنح هذا النوع من الاعتراف إلا إذا جاءت في إطار مقبول لدى المنظومة الغربية التي تدعي الحرية. فوجود شريك إسرائيلي في العمل، يعد جزءًا من آلية تُمكّن السردية الفلسطينية من العبور إلى مساحات قد تكون مستحيلة، إلا إذا جاءت مقيدة بمحددات تُرضي الذائقة السياسية للغرب، الذي يسعى دائمًا إلى إظهار نفسه في موقع التوازن والحياد، حتى وإن كان هذا التوازن مختلًّا وظالمًا.

أما عن التطبيع، فلا خلاف على أن هذا التعاون يندرج تحت مظلته. لكن السؤال ليس فقط عن التصنيف، بل عن الموقف منه. وكمتابعين من الخارج، لسنا في موقع يخول لنا إصدار الأحكام المطلقة أو إملاء المواقف على من يعيشون هذا الواقع الاستعماري ويدفعون أثمانه يوميًّا. باسل عدرا لم يختر شروط اللعبة، لكنه وجد نفسه مضطرًا إلى التعامل معها لتمرير روايته، وهو ما يمكن تفهّمه حتى لو لم يُبرَّر.

مع ذلك، من واجبنا أيضًا أن نتفهم معارضة بعض الأصوات الفلسطينية التي ترفض هذا المسار وترى فيه تطبيعًا غير مبرر، فكما نحتفي بهذا الإنجاز، علينا أن نمنح هذه المواقف حقها في أن تُسمع بوضوح، دون تهميش أو تقليل من مشروعيتها.

في النهاية، أي قراءة منصفة لهذا الحدث يجب أن تراعي تعقيداته، بعيدًا عن ثنائية الاحتفاء المطلق أو الإدانة القاطعة.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان