“الشرع في القاهرة” تحولات الموقف من الثورة السورية بين الإعلام والسياسة

إن حضور الرئيس السوري، أحمد الشرع، القمة العربية بالقاهرة، ولقاءه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لم يكن مجرد حدث بروتوكولي عابر، بل حمَل في طيّاته إشارات تستحقّ القراءة بعمق، خاصة في ظل التاريخ المعقد لموقف مصر من الثورة السورية، والتشويه الإعلامي الممنهج الذي طال الشرع والتيارات الإسلامية المرتبطة بالثورة.
هذا اللقاء يطرح أسئلة حول تحوّلات السياسة المصرية، والتناقض بين الخطاب الإعلامي السابق والواقع السياسي الراهن.
تأخر الاعتراف وخطاب التخوين
عند اندلاع ثورة سوريا 2011، اتسم الموقف المصري بالتحفظ، بل التأخر في الاعتراف بشرعيتها، خصوصا بعد وصول الإخوان إلى الحكم في مصر عام 2012؛ حيث سادت مخاوف من انتقال تأثير الثورات العربية.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsورحل أبو إسحاق الحويني
الحرية والعدالة وأوهام “دون كيشوت”
التلاعب بالأقليات في سوريا
ومع تولي النظام الحالي في مصر عام 2013، تصاعد خطاب إعلامي مصري معادٍ للثورة السورية، ربط بينها وبين “الإرهاب”، ووصم الشرع -الذي برز كوجه ثوري- بـ”الإرهاب”، واتُّهمت فصيلته بالتبعية لجماعة الإخوان.
ووصل الأمر إلى حدّ سخرية بعض الإعلاميين المصريين من هروب بشار الأسد أمام المقاومين، في محاولة لتضخيم انتصارات النظام السوري، بينما صورت وسائل الإعلام المصرية الشرع والتيار الإسلامي المسلح كمصدر تهديد، في تناقض صارخ مع تعاطف الرأي العام العربي مع الثورة.
اللافت هو تحول التعامل المصري مع الشرع من “متمرد” إلى رئيس شرعي يُستقبل رسميا؛ مما يدفع إلى التساؤل عن أسباب هذا التحول، هل يعكس تغيرا جذريا في موقف مصر من ثورة سوريا، أم أنه انسياق وراء سياسة الأمر الواقع بعد تمكّن الشرع من ترسيخ حكمه؟
القراءة الأولية تشير إلى أن مصر، الدولة ذات الثقل الإقليمي، تتعامل بمنطق البراغماتية السياسية، فبعد سنوات من الحرب الأهلية في سوريا، وتراجع الدور المصري لصالح قوًى إقليمية، مثل تركيا وإيران، قد تكون القاهرة تسعى لاستعادة نفوذها عبر فتح قنوات اتصال مع الحكم الجديد، خاصة مع تزايد المؤشرات على تمكّن الشرع من تحقيق استقرار نسبي، بدعم من تحالفات إقليمية ودولية.
من “إرهابي” إلى رئيس شرعي
إن وسائل الإعلام الرسمية، التي كانت تصفُ الشرع بـ”الإرهابي”، تعاملت مع حضوره في القمة كحدث طبيعي، دون مراجعة سابقة.
هذا التحول ليس جديدا في السياسة المصرية التي غالبا ما تجعل الإعلام أداة لتبرير تلك التحولات، بدلا من أن يكون منصة للحوار الموضوعي.
من أبرز محاور الهجوم الإعلامي المصري على الثورة السورية اتهامها بالارتباط بجماعة الإخوان التي تعتبر “جماعة إرهابية” في مصر منذ 2013، لكن هذا الربط يتجاهل خصوصية الثورة التي جمعت تيارات متنوعة (إسلامية وليبرالية)، ضد الأسد، كما يتجاهل حقيقة أن العديد من الفصائل الإسلامية السورية تختلف أيديولوجيا عن جماعة الإخوان المصرية.
ومع ذلك، استُخدمت “الوصمة الإخوانية” لشيطنة الثورة، وهو ما يبدو متناقضا مع التعامل الرسمي مع حكومة الشرع، ما لم يكن القصد تسويغ التطبيع مع الواقع الجديد عبر فصل الشرع عن الإخوان!
ولا يمكن فهم التحول المصري دون وضعه في إطار التحالفات الإقليمية، فمصر اليوم تقف في تحالف مع دول مثل الإمارات والسعودية اللتين بدأتا فتح قنوات مع الشرع، بعد سنوات من دعم المعارضة.
ويبدو أن التوجه العام نحو “التطبيع” مع دمشق بدأ يفرض نفسه، مدفوعا بتغيّر الأولويات، مثل مواجهة النفوذ التركي، والقلق من التمدد الإيراني، وهو ما قد تفسر القاهرة تحركها ضمنه.
إن اللقاء بين السيسي والشرع لا يعني -بالضرورة- أن مصر أعادت حسابتها الأيديولوجية، بل هو اعتراف بموازين القوى الجديدة، فسياسة مصر -ككثير من الدول- تخضع لحسابات المصلحة لا العاطفة، لكن هذا التحول يترك أسئلة حول تأثير التقلبات الإعلامية والسياسية في مصداقية الدبلوماسية المصرية.
لا يمكن فصل التحول في الموقف المصري اتجاه الشرع عن التغيرات الجيوسياسية الأوسع في المنطقة، فبعد عقد من الصراع السوري، بدأت خريطة التحالفات ترسَم مجددا، مع تراجع الدعم الغربي للفصائل المعارضة، وتصاعد الضغوط الدولية لإيجاد تسوية سياسية.
لذا، يبدو أن مصر تحاول تأمين موقعها كفاعل مؤثر في الملف السوري، خاصة مع تصاعد الحديث عن إعادة إعمار سوريا، واستئناف العلاقات الاقتصادية مع دول الخليج التي قد تفتح أبوابا للاستثمارات المصرية.
عداء في الداخل وتعاون في الخارج
هذا التحول يطرح إشكالية أخلاقية، وهي كيف تبرر القاهرة دعمها السابق لنظام الأسد -بشكل غير مباشر- عبر تشويه الثورة، ثم تعود للتعامل مع مَن أسمتهم “إرهابيين” بوصفهم شركاء؟
الإجابة تكمن في مفارقة السياسة الخارجية المصرية التي تتبنّى خطابا معاديا للإسلام السياسي داخليا، وتتعامل مع فصائل إسلامية في الخارج حين تخدم مصالحها، فـ”العداء للإخوان” في الداخل لا يمنع التعاون مع أطراف مرتبطة بهم في سوريا أو فلسطين، إذا كان ذلك يحقق مكاسب استراتيجية.
ومن اللافت أن الإعلام المصري لم يقدم قراءة نقدية لهذا التحول، بل تعامل مع الحدث كأنه أمر روتيني.
وهذا الصمت يظهِر مدى سيطرة السلطة على الخطاب الإعلامي، وقدرتها على تحويل “الأعداء” إلى “أصدقاء” بين عشيّة وضحاها، دون أي محاسبة للتناقضات.
أما الرأي العام المصري فقد وجد نفسه في حيرة: كيف تُدين السلطة الإخوان في الداخل، ثم تصافح مَن ينتسبون إليهم في الخارج؟
الأكيد أن الشرع الذي كان “إرهابيا” في الأمس، أصبح اليوم شريكا في القمة.