تيسير التفسير.. أول مراجع الشعراوي في خواطره

حظي تفسير القرآن، والدراسات القرآنية باهتمام كبير من علماء الأزهر في العصر الحديث، فصدرت عنهم تفاسير ودراسات حول القرآن وعلومه، نالت شهرة، ومرجعية يؤوي إليها الدارس للقرآن وتفسيره، بل لا نجامل إذا قلنا: إن مصر حفلت بعدد من المفسرين أو المهتمين بالقرآن الكريم وتفسيره، سواء ممن درسوا في الأزهر، أو ممن درسوا خارجه، وكان لكتاباتهم مذاق خاص، وتمكن علمي ملحوظ، وقبول لدى العامة والخاصة.
وحري بنا أن نُعرّف ببعض هذه الجهود في شهر القرآن؛ شهر رمضان، ومن هذه التفاسير التي لم تنل حظها من الشهرة حاليا، تفسير بعنوان “تيسير التفسير” للشيخ عبد الجليل عيسى رحمه الله، والمؤلف كان من جيل الأزهريين الذين يتمكنون من عدة علوم، ولا يقف بهم البحث العلمي عند تخصص معين، فقد كان ضليعا في اللغة العربية، ومفسرا، وأصوليا، ومحدثا، ونرى له إسهامات في هذه المجالات كلها، بكتابات تضعه -على قلتها- في الصف الأول من علماء هذه الفنون.
مرجع الشعراوي الأول في خواطره
ولعبد الجليل عيسى تفسيران، تفسير مختصر جدا على هامش المصحف، بعنوان “المصحف الميسر” أطلعني عليه حفيده الفنان هشام عبد الله وأمه ابنة الشيخ عبد الجليل، وتفسير آخر هو موضع حديثنا، ليس مختصرا ولا مسهبا، وهو تفسير مخدوم وميسر، يفيد المختص وغير المختص، وقد جعل عنوانه: “تيسير التفسير للقراءة والفهم المستقيم”، وقد بدأ الشيخ تفسيره مختصرا، ثم بدأ يطيل النفس فيه، وراجع هذه الطبعة الأخيرة الشيخان: عبد المنعم النمر، ومحمد متولي الشعراوي.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالمعارضة التركية وأزمة الاستقواء بالخارج
لعبة السياسة في تركيا.. “غلطة الشاطر بألف”
“لحظة حزينة في عالم السينما”.. إلقاء الحجارة على الأوسكار!
وكتب العلامة الشعراوي مقدمة للكتاب، كان من أهم ما ورد فيها، قوله: “وسيحكم قارئ الكتاب قبلي على صدقي في تكريم كاتبه، وأسأل الله سبحانه كما بارك فيه أن يبارك في تراثه، وأن يبسط البركة على يد كل أبناء الشيخ برضا الله، وحسبي في تكريم شيخنا أن كتابه “تيسير التفسير للقراءة والفهم المستقيم”، يعلم الله أنه أول مراجعي، لأنه عرفني كيف أجمع شتات الآيات جمعا يستوعب كل ما قيل بحلاوة كل ما يقول”.
ربط الآيات ببعضها وكتابتها بالإملاء الحديث مع العثماني
وهي مزية في تفسير عيسى، يلحظها القارئ بوضوح، فهو يعمد في تفسير الآيات أولا إلى معاني الكلمات، ثم يبدأ تفسيرها بالآيات الأخرى، التي توضح ما يغمض منها، أو ربما ظن القارئ أنه مشكل، فيقوم من خلال جمع الآيات بتفسير بعضها ببعض، وهو ما ينبئ عن أن خريطة القرآن واضحة تماما، ومتقنة بشكل كبير في رأس الرجل، وهي مزية قل أن تجدها في المعاصرين إلا القليل الذين ارتبطوا بالقرآن ارتباطا وثيقا، ليس مجرد الحفظ، بل الحفظ والاستظهار للنصوص، واستدعاء ما يتعلق بالنص المفسر، من نصوص أخرى سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، وهنا تبرز مهارة المفسر.
الإضافة التي امتاز بها هذا التفسير، أن الشيخ رحمه الله، وجد شكوى من عدد من القراء، يصعب عليهم قراءة المصحف بالرسم العثماني، وبخاصة من لم يكن تعليمه تعليما دينيا، فقام بوضع الكتابة الإملائية المعاصرة للكلمات التي لها كتابة مختلفة بالرسم العثماني. نموذج كلمات: السموات، يكتبها أسفل الصفحة السماوات، واليل: الليل، والصلوة: الصلاة، والزكوة: الزكاة، يبنؤم: يا ابن أم.
ركز عيسى في تفسيره على خصيصة مهمة من خصائص القرآن الكريم وهي الهداية، فالله عز وجل قال عنه: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، فركز في هذا المعنى والمقصد من القرآن في خطابه للبشر، من حيث إرشادهم لسبل الهداية، ولو كان ذلك في تفسير آيات التشريع، فهي مربوطة بهذا الهدف، كما في حديث القرآن عن العبادات وربطها بالخلق والتقوى، وهو توجه ابتدأه وركز عليه كثيرا الإمام محمد عبده، ثم تبعه تلميذه الشيخ محمد رشيد رضا، ثم الشيخ محمد مصطفى المراغي والشيخ محمود شلتوت، وجل تلامذة المدرسة الإصلاحية في تفسيرهم للقرآن الكريم.
الاحتراز من الإسرائيليات والاحتياط في الغيبيات
والتركيز على هذه الخصيصة تجعله يبتعد كثيرا عن الخوض في سجالات تتعلق بعالم الغيب، فيما هو موضع خلاف، أو تأويل، وبخاصة فيما يتعلق بالقصص القرآني لأحداث تتعلق بالأنبياء، مما انتشرت فيه الإسرائيليات، أو فيما يتعلق بعلامات الساعة والآخرة.
فنراه عند حديثه عن قوله تعالى: {وَٱتَّبَعُواْ مَا تَتۡلُواْ ٱلشَّيَٰطِينُ عَلَىٰ مُلۡكِ سُلَيۡمَٰنَۖ وَمَا كَفَرَ سُلَيۡمَٰنُ وَلَٰكِنَّ ٱلشَّيَٰطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ ٱلنَّاسَ ٱلسِّحۡرَ وَمَآ أُنزِلَ عَلَى ٱلۡمَلَكَيۡنِ بِبَابِلَ هَٰرُوتَ وَمَٰرُوتَۚ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنۡ أَحَدٍ حَتَّىٰ يَقُولَآ إِنَّمَا نَحۡنُ فِتۡنَةٞ فَلَا تَكۡفُرۡۖ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنۡهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِۦ بَيۡنَ ٱلۡمَرۡءِ وَزَوۡجِهِۦۚ وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِۦ مِنۡ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمۡ وَلَا يَنفَعُهُمۡ} [البقرة: 102]، والناظر لكتب التفاسير التراثية سيجد كما هائلا من الإسرائيليات، فيما يتعلق بهاروت وماروت، وطبيعة هذا السحر، بينما ذهب عيسى إلى الحديث بما نطق به النص، دون استدعاء لأي مرويات من الإسرائيليات، وتبنى رؤية أن هاروت وماروت ملكان، أرسلا ليحذرا الناس من السحر الذي ادعاه اليهود على نبي الله سليمان، وأنه كان يسير حكمه به، فالآية تبرئه من ذلك، وتبين أن ما أشاعته النفوس الخبيثة عنه غير صحيح.
أما تناوله للغيبيات، فيتضح من بعض المواضع التي تعرض لها، مثل حديثه في سورة القمر عن شق القمر، وهل انشق بالفعل معجزة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد مال إلى عدم القول به، ورأى أنه مخالف لما تكرر في القرآن كثيرا من عدم إجابته سبحانه لما يطلبه المشركون من معجزات، وبين سبب ذلك تارة بأنهم معاندون لن يؤمنوا، وتارة بأن في القرآن كفاية لهم بعد عجزهم عن الإتيان بمثله.
ومن ذلك تعرضه لمسألة الدابة التي تكلم الناس، في تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا وَقَعَ ٱلۡقَوۡلُ عَلَيۡهِمۡ أَخۡرَجۡنَا لَهُمۡ دَآبَّةٗ مِّنَ ٱلۡأَرۡضِ تُكَلِّمُهُمۡ أَنَّ ٱلنَّاسَ كَانُواْ بِـَٔايَٰتِنَا لَا يُوقِنُونَ} [النمل: 82]، إذ قال في تفسير الآية: “وقد أكثر قصاص الآثار في وصف هذه الدابة وبالغوا في طولها وعرضها، واختلفوا في زمان خروجها ومكانه، وتكلموا في اللغة التي تكلم بها الناس ولغاتهم لا تحصر، واختلفوا هل هي حيوان غير إنسان أم إنسان؟ حتى بلغ سخف بعضهم أن يدعي أنها هي علي بن أبي طالب، كرم الله تعالى وجهه؛ لكل هذا قال الألوسي: واختلف فيها اختلافات مضطربة يعارض بعضها بعضا، فامتنعنا عن نقله حفظا للوقت من الضياع عبثا، والحق أن أمور الغيب لا يجب التصديق بها إلا إذا ثبتت بدليل قطعي الثبوت والدلالة”.
فكتاب تيسير التفسير للشيخ عبد الجليل عيسى، هو عنوان معبر عن المضمون، فهو خير معين بالفعل على القراءة والفهم المستقيم للقرآن الكريم، ولذا كانت عناية مشيخة الأزهر الشريف، بطلب من الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر، وتكليف للدكتور محمد عمارة رحمه الله، بالاعتناء بالكتاب، وإخراجه في ثوب قشيب، في ثلاثة مجلدات كبار، عن مجلس حكماء المسلمين، فهو عمل وجهد مشكور، أعاد للكتاب بهاءه ورونقه، كما هو شأنهم في كتب أخرى تصدر تحت عنوان: من عيون التراث الأزهري الجديد.