معاوية.. والفتنة الكبرى

جدل واسع، وحاد أشعله مُجددا، عرض المسلسل الرمضاني “معاوية”، على فضائية “mbc” الذي يتناول سيرة معاوية بن أبي سفيان، وصراعه مع خليفة المسلمين علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- حتى تولى هو الخلافة، وأقام الدولة الأموية، وأسس لمبدأ توريث الحكم.
الجدل لم ينقطع، فهو مستمر منذ “زمن الفتنة الكبرى”، الذي تلى خلافة عثمان بن عفان. يعنينا، قصة معاوية بن أبي سفيان، والفتنة الكبرى التي حلت بالمسلمين، ولا تزال تنتج نيرانا لم تخمد حتى الآن، رغم مرور أكثر من 1400 عام على اندلاعها. القصة، من زاوية السياسة، وليس الدين. معاوية، اتخذه الرسول -صلى الله عليه وسلم- كاتبا للوحي، ابن أبي سفيان (صخر) بن حرب بن أمية، من سادات قريش قبل الإسلام، وأمه هند بنت عتبة.
عثمان بن عفان.. وثورة الأمصار
يُستفاد من الجزء الأول لكتاب “الفتنة الكبرى- عثمان”، لمؤلفه المفكر المصري عميد الأدب العربي طه حسين (1889-1973م)، بأن ثالث الخلفاء الراشدين عثمان، استقبل خلافته، عازما على أن يسير سيرة صاحبيه أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب في عدلهما، وحسن إدارتهما لشؤون الخلافة، فلم يحتجب، ولم يستعلِ، ولم يتسلط.. إنما طاله، ما قد يطال الناس، من ضعف يأتي عن خلق كريم، وحب للخير، ورغبة فيه.. لا عن سوء نية، ولا بغي. عثمان تولى الخلافة في السبعين من عمره، ومن خصاله، أنه كان جوادًا معطاءً، وصولا للرحم، شديد الحياء، رقيق القلب، حسن الرأي في الناس. بينما توفرت لبعض عشيرته الأقربين، خصال الطمع، والجشع، والطموح الذي لا حد له، والاستعداد للتسلط، والغلبة (في إشارة إلى إسناد عثمان مناصب مهمة في الدولة لأقاربه) بما كان جديرا لتعريض عثمان للشر، فثارت عليه الأمصار (المدن)، وأهمها مصر، وحوصر لفترة تتراوح بين 20 إلى 40 يوما، قبل أن يقتله مُحاصروه الثائرون.
المقريزي.. والنفي لبني أمية إلى الشام
في كتابة “النزاع والتخاصم بين بني أمية وبني هاشم”، يتناول المؤرخ أحمد بن علي المقريزي (1364-1442م)، جذور العداوة بينهما، التي ترجع إلى تنافسهما على الزعامة قبل ظهور الإسلام، فكانت السقاية (توفير المياه للحجاج)، والرفادة (إطعام الحجيج، وضيافتهم)، لهاشم بن عبد مناف بن قصي، وارثا إياها عن جده قصي بن كلاب بن مرة. تصدى ابن أخيه “أمية بن عبد شمس” للسقاية والرفادة، فعجز عنها، فكان العقاب بالنفي أو الإبعاد إلى الشام، له وعشيرته (أمية)، لعشر سنوات، وهو ما أسهم في بناء علاقات وروابط لبني أمية في الشام، لذا فإن خليفة رسول الله أبا بكر الصديق، اختار معاوية بن أبي سفيان واليا على “الشام”، باعتباره عارفا بأمور أهلها، ليستمر معاوية 20 عاما، فقد أبقى عليه عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب واليا على الشام.. بما أتاح لمعاوية، توطيد زعامته، وإحكام قبضته عليها.
معاوية.. والثأر لقتلة عثمان
كان عثمان بن عفان أمويا (من بني أمية).. بينما علي بن أبي طالب هاشميا. عقب استشهد عثمان بن عفان على يد الثائرين عليه، فإن نوعا من الفوضى كاد يدب في أركان الدولة الإسلامية الوليدة، فيما “معاوية”، يُمسك جيدا بزمام الأمور في الشام. بايع المسلمون علي بن أبي طالب أميرا للمؤمنين.. بينما امتنع معاوية الذي يُمسك بزمام الأمور جيدا في الشام، عن مُبايعة علي، مُشترطا، القصاص لمقتل عثمان. ظاهريا.. مطلب معاوية، مشروع، فهو ولي الدم لعثمان (أموي). لم يكن “علي” رافضا الثأر لعثمان، فلم يكن جائزا -شرعا- للثائرين قتل عثمان، فأقصى ما يحق لهم هو طلب عزله، وليس قتله، لكن عليًا يدرك (وحتما، معاوية يدرك)، صعوبة الإقدام على هذه الخطوة حالا، في ظل الانفلات الناجم عن اغتيال عثمان.. بما يستلزم التريث حتى تستقر الأمور.
موقعة صفين.. والمصاحف على أسنة الرماح
على هذه الخلفية اتسعت الفتنة، ووصل الأمر إلى تقابل جيش علي ومعاوية عام 37 هجري، في موقعة صفين (قرب مدينة الرقة السورية حاليا)، استعان علي بأهل العراق.. بينما معاوية معه الشام. بدا أن الحسم بعيد المنال، فاقترح عمرو بن العاص، الذي رفقة معاوية رفع المصاحف على أسنة الرماح، فتوقف القتال، واتفق الطرفان على “التحكيم”، لينتهي بتثبيت كل من علي ومعاوية، ليدير كل منهما البلاد التي تحت ولايته. ثم اُغتيل علي بن أبي طالب، بسيف مسموم، عام 40 هجري، في المسجد الكبير بالكوفة، بالعراق.. قتله أحد الخوارج، هو عبد الرحمن بن ملجم. لتتم مبايعة الحسن بن علي بن أبي طالب، ليكون الخليفة الراشد الخامس، فينازعه “معاوية”، فتنازل له الحسن، عام 41 هجري، حقنا لدماء المسلمين.. بشرط أن تكون الخلافة بالشورى. توفي الحسن، عام 51 هجري، مسموما، وقيل على يد زوجته، بتحريض من “معاوية”.. الذي لم يلتزم، فأسقط قاعدة الشورى، وقام بتوريث ولده يزيد، ليؤسس حكما ملكيا بالوراثة للدولة الأموية التي استمرت 91 عاما (من 41-132هـ).
دهاء معاوية ومراوغته .. وموقعة الجمل
“معاوية”، وحسب مؤرخين كُثر.. امتاز بالدهاء والمراوغة، وخبرة اكتسبها من الحروب، وسياسة الشام، فأجاد توظيف الأوراق، والعوامل المحيطة بالصراع، كي يصل إلى مُبتغاه، خليفةً للمسلمين، وكثيرا ما دفع الأمور لصالحه.. تأجيجا لخلافات ومُشاحنات دون أن يكون طرفا مباشرا. مثلما حدث في موقعة الجمل (عام 36هـ)، التي دفع إليها، معاوية، بإصراره على القصاص عاجلا، لمقتل عثمان، والتي استهلكت عليًا، وأضعفته.. رغم أنه صاحب تاريخ مجيد ومُشرف في الإسلام، فهو قوة روحية، لا تعرف سوى الاستقامة.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsلعبة السياسة في تركيا.. “غلطة الشاطر بألف”
“لحظة حزينة في عالم السينما”.. إلقاء الحجارة على الأوسكار!
ورطة الجامعة العبرية
ليتنا، نقرأ التاريخ، ونتعلم دروسه، تجنبا لتكرار الأخطاء.. دون التورط في مُشاحنات، ومعارك جدلية.. من شأنها استمرار الفتنة إلى الأبد، فتتفرق الأمة بأكثر ما هي مُشتتة، ومُنهكة بمثل هذه النزاعات، والفتن التي لا طائل من ورائها.. سوى أنها لصالح أعداء الأمة المتربصين بها.