محاكمة جنرالات ووزراء في الصين.. حرب على الفساد أم للاستبداد؟!

قبل أن ينعقد مجلس نواب الشعب الصيني في اجتماعه السنوي، الاثنين 11 مارس/آذار، لمدة 3 أيام، أصبح وزير الصناعة وتكنولوجيا المعلومات جين تشوا نغلونغ أحدث مسؤول رفيع المستوى يُخلع من منصبه، ويختفي عن الأنظار منذ فبراير/شباط الماضي. لا تتوافر معلومات عن أسباب اختفاء الوزير أو سبب ابعاده عن منصبه، أسوة بما حدث مع 3 وزراء مثله، على مدار 3 أعوام.
سيوقع 2977 نائبا شاركوا في دورة الانعقاد السنوي، ممن يمثلون المقاطعات ومؤسسات الجيش، على القرارات التي اتخذها قادة الحزب الشيوعي الحاكم بشأنه، باعتبارهم النخبة السياسية التي تشرع ما اتخذته السلطة العليا للحزب من قرارات.
يحتفظ مجلس نواب الشعب، وهو أعلى هيئة تشريعية في الصين بسلطات دستورية واسعة، تشمل اختيار رئيس الدولة ورئيس مجلس الوزراء وأعضاء الحكومة، ويُفترض أن يكون له دور رقابي على أعمال السلطة التنفيذية، مع ذلك فإن النظام السلطوي الذي يديره الحرب الشيوعي، يجعل من برلمانه مجرد آلة ميكانيكية للتوقيع على القرارات التي تتخذها السلطة التنفيذية ذاتها.
يتندر الصينيون على أعضاء البرلمان ويسمّونهم “اختام السلطة” الذين يبصمون على كل القرارات التي تتخذها قيادة الحزب الشيوعي، وخاصة مجموعة السبعة الكبار الذين يديرهم رئيس الدولة مباشرة.
تعمق حالات إلقاء القبض على الوزراء وكبار القادة بالدولة من شعور المواطنين بأن ممثليهم مجرد أختام بيد السلطة، لأنهم لا يعلمون لماذا جاء الوزراء والمسؤولون، ولا الأسباب التي تدفعهم إلى الاختفاء المفاجئ، كما لا يمكنهم ملاحقة أخبارهم بعد القبض عليهم في قضايا الفساد إلا بما تنشره السلطة من بيانات مقتضبة تحدد مصير يغلب عليه السجن لسنوات طويلة بتهم الفساد أو إصدار أمر بالإعدام، وفي أحسن الأحوال تخفيض الدرجة الوظيفة، والإبعاد عن تشكيلات الحزب الحاكم.
إقالة جنرالات الصواريخ
لن يتوقف أعضاء مجلس نواب الشعب طويلا أمام الشكوك التي تتردد بين الصحفيين الصينيين، حول علاقة الوزير بالفساد العسكري الصناعي الذي أدى من قبل إلى اختفاء وزير الدفاع السابق لي شانغ فو عن الأنظار منذ 2023، إلى أن أقيل من منصبه بالقضية ذاتها، مع كبار أعضاء قوة الصواريخ النووية والاستراتيجية ممن شاركوا في إدارة التصنيع العسكري خلال الفترة من 2017-2023.
شملت القضية القيادي الرابع في التسلسل الهرمي بالجيش، قائد القوات المشتركة لجيش التحرير الشعبي وممثل الحزب الشيوعي الأدميرال مياو هوا، ليصبح ثالث جنرال، والثاني من بين 6 أعضاء بأعلى لجنة عسكرية سياسية في البلاد، الذي يُطرد من الجيش خلال العامين الأخيرين، منهم وي فنغ خه وزير الدفاع الأسبق، وقائد البحرية دونغ جون، وقائد قوة الصواريخ النووية لي يوشياو.
سبق لهؤلاء النواب أن وافقوا على محاكمة وزير العدل الأسبق فو تشنغ هوا ونائب وزير الأمن العام سون لي جون، وسجنهما مدى الحياة بتهمة استغلال النفوذ، وتخفيض درجة وزير الخارجية السابق تشين قانغ، بعد إقصائه من منصبه في يوليو/تموز 2023. اختفى “تشين” عن الأنظار عدة أشهر، لنفاجأ بأن الوزير الذي وصل بسرعة الصاروخ إلى منصبه كأصغر وزير خارجية، لقربه الشديد من الرئيس، أنجب ابنا من مذيعة شهيرة خارج إطار الأسرة، أثناء عمله سفيرا لمدة عام بالعاصمة الأمريكية واشنطن، قبل توليه منصبه عام 2022.
اعتبر الحزب خطيئة الوزير “سوء إدارة”، فتغاضوا عن طرده لقربه من الرئيس. سيتلقى النواب موقف الحزب من وزير الزراعة والتنمية الريفية تانغ رينغيان، الملقب “قاهر الصحراء”، بعد أن وُجهت إليه اتهامات تتعلق بسوء الإدارة لمشروعات زراعة الأراضي القاحلة والمناطق الفقيرة التي أدارها لسنوات قبل توليه الوزارة.
كبش الفداء
تعكس الإقالة المفاجئة للمسؤولين سير الأحزاب السلطوية على نهج اعتادت عليه الصين والأنظمة الاستبدادية، التي تذبح ” كبش فداء”، قبل الاجتماعات الحاسمة، دون أن تفسر الأمر بوضوح، وتترك فرصة للشائعات التي يتغذى عليها الرأي العام.
تؤدي وسائل الإعلام دورا مهما لصناعة قصص مخيفة ونشر أجواء البطش بالخصوم، وتصوير الأمر على أنه حرب على الفساد، بما يلقى دعما من العامة، الذين يتصورن أن محاكمة أي مسؤول دليل على قوة النظام، وعمل قادته لصالح الشعب، بينما تثير المعلومات المتاحة انقساما بين النخبة.
هناك من يرى أن شي يواصل حربا تأتي ضمن حملته لـ”القضاء على النمور والبعوض” التي شرعها منذ توليه السلطة عام 2012، للحد من فساد كبار المسؤولين وصغار الفاسدين، خاصة أن الفساد داخل الجيش والمؤسسات الرسمية مستشر بما يؤرق المواطنين ويعطل مصالح رجال الأعمال، وهناك من يعتقد أن هذه الحروب أصبحت أداة رئيسية بيد الرئيس يمارسها لتعزيز سلطته وتشكيل القيادات السياسية والعسكرية التي تخدمه، خاصة بعد تعديله الدستور عام 2022 ليظل منفردا بالسلطة لمدد رئاسية غير محددة، والبقاء رئيسا إلى الأبد.
في ظل مجتمع يعتبر حرية تداول المعلومات جريمة، ويسيطر بقبضة حديدية على وسائل الإعلام وشبكات التواصل، يظل دور الإعلام مروّجا لحملات القضاء على النمور والبعوض، باعتبارها إصلاحا ثوريا. لا نجد بين المثقفين والمحللين السياسيين والأكاديميين من يناقش هذه السياسات بحرية، إلا إذا صادفنا أيا منهم على انفراد داخل الصين أو ممن يعملون خارجها. فمنهم من يقدر على وصف تلك الإجراءات بأنها حرب لتعزيز الديكتاتورية تحت غطاء “الحرب على الفساد”، ووسيلة لإقصاء الخصوم السياسيين وإضعاف المؤسسات الديمقراطية، ويعقدون المقارنات التي تجري في البلاد الاستبدادية الأخرى، مثل الاتحاد السوفيتي سابقا والدول العربية حاليا والأنظمة العسكرية في إفريقيا وآسيا، والدينية المتطرفة مثل إسرائيل، التي تعتمد على نخبة سلطوية، تجعل النظام أكثر استبدادا وأقل شفافية، مقابل دعم دور السلطة في مكافحة الفساد، دون التشكيك في القائم عليها أو النظام ذاته، وتصوير المسؤول عنها قائدا قويا يقود حملة لضمان نزاهة الحكم والدولة، بما يعزز حكم الفرد وإضعاف أي بديل ديمقراطي محتمل.
عدالة الحرب على الفساد
يستطيع المواطن أن يكتشف نوعية النظام الذي يعيش في كنفه، ويحكم بنفسه على مدى كفاءة وشفافية عدالة الحرب على الفساد ومستوى الديمقراطية التي يتمتع بلده بها. فإذا كانت لدى وسائل الإعلام والنخبة والأفراد القدرة على تناول القضايا التي تمس سمعة المسؤولين بالدولة وهم قائمون على رأس أعمالهم، وتتبُّع الفساد الذي يُمارَس عادة بين دوائر حزبية وسياسية، وقد يشمل وزراء وجنرالات ورجال أعمال، فإن الحكم على هذا النظام بغض النظر عن كونه جمهوريا أو ملكيا أو دستوريا، يخضع لقواعد رقابية واضحة، وقوانين لحماية المال العام وصون كرامة المواطن.
أما إذا كان النظام يمنع المناقشات العامة أو إجراء تحقيقات مستقلة عن الفساد، ويقدّم المسؤولين المتهمين بعد إبعادهم عن السلطة، مكتفيا بنشر قصص درامية عن إساءة استخدامهم للسلطة أو الثراء غير المشروع، وتصويرهم على أنهم “خائنون للشعب”، دون منحهم فرصة للدفاع عن أنفسهم أمام محاكم مدنية علنية، تنقلها وسائل الإعلام بحرية، فأدرك أن قضايا الفساد تثار لتعزير الولاء للنظام، وقمع المعارضة، وإزاحة الأشخاص الذين يهددون شعبية القائمين عليه، أو ممن يسعون إلى تعزيز سلطة رأس النظام المطلقة، وإعادة هيكلة النخبة الحاكمة، بدلا من القضاء على الفساد فعليا.