“معاوية”.. جدل الإبداع وعواصف التاريخ

مسلسل معاوية (منصات التواصل)

في الجدل حول شخصية معاوية بن أبي سفيان عواصف تاريخية لا تنتهي.

وفي دخول الفن إلى ميدان المعركة المشتعلة جرأة وشجاعة لا يمكن إنكارهما.

المعارك الفكرية والسياسية حول المسلسل الذي كتبه الكاتب الصحفي المصري خالد صلاح بدأت منذ اللحظة الأولى، وظني أنها ستستمر!

بدا الأمر وكأن الصراع السياسي والفكري حول الشخصية الأكثر جدلًا في التاريخ الإسلامي تفجَّر كله في لحظة واحدة.

حالة الشد والجذب صنعت دخانًا كثيفًا فلم ندرك هل أسبابها دينية أم سياسية أم الاثنان معًا!

في كل العواصف التي هبت فجأة تأكيد جديد على قيمة الإبداع حينما يلمس بيده مناطق شائكة في التاريخ.

لا يمكن لمعاوية ألا يثير الجدل وسط بيئة سياسية ودينية منقسمة بشدة حول شخصيته وقراراته ومعاركه، بمقدار ما أثار المسلسل العاصفة كل هذا الجدل، فإنه نجح- حتى الآن- في ترسيخ خطوات مهمة، يمكن أن تكون بداية جديدة ومسارًا متجددًا للدراما التاريخية والدينية بشكل عام.

من “معاوية” إلى مساحات أرحب لحرية العرض والإبداع على الشاشة يمكن أن تنطلق الدراما.

هذه ملاحظة أولية وجادة.

ظهور الصحابة على الشاشة

في الجدل المحتدم حول “معاوية” اجتاز كاتبه عقبة أثارت الجدل طويلًا.

كسر المسلسل جدلية رفض ظهور صحابة النبي محمد على الشاشة، وفتح مساحة جديدة وبراحًا أوسع لمستقبل الدراما.

هذه نقطة قوة تضاف إلى المسلسل العاصفة، يمكن للمبدعين البناء عليها مستقبلًا.

انتصر الإبداع مع الزمن، والمفارقة أن الانتصار يأتي على يد “معاوية” الذي أثار المعارك في الماضي قبل أن يتركها ساخنة حتى الآن.

تاريخيًّا كان هناك ما يشبه الإجماع بين علماء الدين والمؤسسات الدينية الكبرى على رفض ظهور الرسل أو الصحابة على الشاشة.

الخلاف استمر سنوات بين رأيين، أولهما يتبنى التحريم الديني المشدد، وثانيهما يرى المنع حصارًا غير محبب للإبداع والفن.

في الأعمال الدينية حاولت بعض الدول التوفيق بين الرأيين عبر تقديم أعمال درامية وسينمائية تتناول حياة الصحابة والرسل دون ظهور شخصياتهم بشكل مباشر.

استخدم المبدعون إيحاءات ترمز إلى الشخصيات الدينية في سبيل التحايل الفني على المنع المشدد.

السرد الصوتي والضوء أو اللقطات غير المباشرة وغيرها كانت وسيلة الفن في توصيل رسالته.

ضرب “معاوية” القديم، وكسر حاجز الخوف، وجسَّد الصحابة بشكل واضح.

كانت هذه الخطوة كفيلة بزيادة سخونة المعارك التي فجَّرها المسلسل المهم منذ بدايته.

في انتصار الإبداع على الرقابة ما يدعو إلى الارتياح، ويحض على الثقة في المستقبل.

وفي كل باب جديد ينفتح لحرية الكتابة إضافة مؤكدة لمزيد من الوعي والتنوير، ومواجهة حاسمة لثقافة الانغلاق والتشدد.

بين الفن والتاريخ

“في معاوية لم نكتب التاريخ بمنطق المنتصر والمهزوم، لم نبحث عن الحقيقة في صياغاتها الجامدة، بل حاولنا أن نرى الإنسان خلف السياسة، وأن نعيد قراءة القصة بعيدًا عن صخب الروايات المتضادة”.

هكذا نشر الكاتب الصحفي خالد صلاح ما يفسر أسباب اختياره لشخصية معاوية بكل الجدل المثار حولها.

في كلمات كاتب المسلسل تفسير لفكرة مهمة وملهمة، ترى أن الفن ليس تأريخًا حرفيًّا لما دار في الماضي.

قراءة الأعمال الإبداعية في سياقها الفني هو الوعي الضروري للفهم والاستيعاب.

الفن يسهم في كشف الجوانب الخفية والمظلمة في التاريخ، يبحث فيها عن كل ما هو إنساني، ويفتش بين أوراقها عما يجمع البشر من قيم العدل والجمال والمحبة.

بلغة فنية وسرد جذاب يحترم العقول ويصل إلى القلوب، يمكن للفن أن يقدّم رسالته في التنوير وترسيخ قيم التعايش.

الفن حكاية ملهمة، تتسرب رسائله إلى الجمهور لتضيء له المساحات المختفية، وتترك له الحكم في النهاية.

بكل المعاني الإنسانية والفنية لا ينبغي تقييم المسلسل بمنطق سياسي أو ديني، وإلا فإن العاصفة ستستمر بلا هوادة.

بلغة الفن فإن السؤال الذي يجب الإجابة عنه هو مدى نجاح “معاوية” في طرح معالجة مختلفة وذكية، وهروبه من فخ التسطيح والتكرار، ثم قدرته على الخروج من نيران الجدل الديني والتاريخي إلى مساحات فنية أكبر وإبداعية بحق.

والإجابة حتى اللحظة تأتي في صالح العمل الفني الذي أثار الضجة بقدر ما حقق نجاحاً جيدًا على مستوى الكتابة والإخراج والتمثيل.

كيف استفاد الإبداع؟

بالإجابة عن السؤال الصعب يمكن إدراك ما حققه “معاوية” من فوائد للإبداع بشكل عام: هل يجب على الدراما أن تلتزم بالسرديات التاريخية المنتشرة أم من حقها تقديم قراءة جديدة للأحداث؟

في جدل الرؤى والأفكار ليست هناك “رواية واحدة” هي اليقين الكامل.

كل له رؤيته وزاويته التي يطل منها على أحداث التاريخ.

وفي الصراعات الكبرى آراء تتعدد وتتنوع حتى لو اختفى بعضها وظهر البعض الآخر.

وجهات النظر والخلفيات غير الظاهرة للجميع تطل دائمًا في كل المحطات التاريخية المهمة.

يعرف المبدعون جيدًا أن الجمهور يميل إلى التعامل مع روايات تاريخية محددة باعتبارها حقائق مطلقة.

هنا ينفتح الباب أمام الفن

فالفن لا يحكي التاريخ، بل يعيد قراءته، ويتلمس زواياه ومناطقه المعتمة.

وهنا يمكن لـ”معاوية” أن يكون البداية والطريق الجديد الذي يعيد اكتشاف دور الفن وعلاقته بمساحات تاريخية صعبة وشائكة في تاريخنا كله.

بالفن يمكن أن تهدأ حدة المعارك والانقسامات، وتسكن قليلًا اشتباكات لها امتداد في صفحات التاريخ.

الأهم هو الإدراك الدائم أن الفن يعيد قراءة الأحداث ولا يرويها نصًّا.

يستخرج كل ما هو إنساني في التاريخ، ويضعه أمامنا بلغته الآسرة.

هكذا يمكن قراءة “معاوية” -وكل معاوية- في سياقه الفني والإبداعي بعيدًا عن كل المعارك التي لا انتصار فيها لأحد، بل هي خسائر محققه للجميع.

كل ما علينا هو أن نشاهد المسلسل العاصفة بعين فنية تتجاوز الصراعات، وتقرأ معه ما بين سطور التاريخ، وفي النهاية من حق الجميع أن يحكم على ما شاهده بصدق وضمير.

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان