مئوية جولة بلفور .. ماذا دهانا؟

اللورد بلفور

صحب افتتاح الجامعة العبرية بالقدس 1 أبريل/ نيسان 1925، هذا الحدث الصهيوني بامتياز الذي تصادف مئويته اليوم، تنقل اللورد بلفور بين الإسكندرية والقاهرة ودمشق وبيروت في طريق زيارته لفلسطين، حيث ألقى كلمة بحفل الافتتاح فوق جبل الزيتون ـ بقعة الأرض الأساس المغتصبة المقامة عليها الجامعةـ.

توثق أرشيفات الصحف المصرية والفلسطينية وقائع جولة صاحب وعد الوطن القومي اليهودي على حساب الشعب الفلسطيني وسلام المنطقة 2 نوفمبر تشرين الثاني 1917، حين كان وزيرا لخارجية “بريطانيا العظمى”.

طرف من تاريخ

سياسي استعماري

المدهش أنها كانت أول وآخر زيارة لبلفور (1848ـ 1930) إلى فلسطين، مع تقلده مناصب رفيعة أخرى في إدارة الإمبراطورية البريطانية، كرئاسة الحكومة والبقاء بدائرة الأقوياء المتنفذين بحزب المحافظين لنصف قرن، كما تقول النسخة الإنجليزية للموسوعة البريطانية (البريتانيكا) بالإنترنت.

ما ورد بالموسوعة ينبهنا لتاريخ استعماري ورأسمالي يرتبط ببلفور، لا يقتصر على وعده لرجل البنوك روتشيلد، ” من لا يملك، وأيضا لم ير، لمن لا يستحق”، وفي سياق صفقة، على غرار صفقات ترامب القرن 21، مقابل توظيف نفوذ الحركة الصهيونية لتنضم واشنطن للندن في الحرب العالمية الأولى، وإخضاع فلسطين لتأمين المصالح الاستعمارية البريطانية بقناة السويس والهند ” درة التاج البريطاني”.

قبل جولته هذه، قام بلفور، وفق “البريتانيكا”، بدور في كسر إضراب عمال المناجم بمستعمرة جنوب أفريقيا 1922 المعروف “بثورة راند” باستجلاب آخرين من الصين، فسخطت عليه النقابات العمالية والمنظمات الإنسانية. كما لقبه الأيرلنديون “ببلفور الدموي” لقمع ثورتهم على التاج البريطاني قبل نحو العام.

التحرر من

هلاوس الغرف المغلقة

يمثل بلفور سياسة استعمارية هجومية عدوانية، تماثلها الترامبية العائدة الآن. وعندما كانوا يسألونه عن وعده الصهيوني، يجيب بأنه “قرار دول” وليس “خطة شخصية”.

لذا الأجدر بنا وضع الأحداث التاريخية وأبطالها في سياقها الأعم الأشمل، فلا نبالغ في أدوار الأشخاص، ونعول على الثقة بهم أو نسلم بفقدها، ونتجاهل تمثيلهم لمصالح مؤسسات وقوى سياسية ومجتمعية، وألا نظل أسرى التفسير الشخصاني الشيطاني أو الملائكي للأحداث العامة، والانغلاق على اعتقاد ساذج بأننا وحدنا المستهدفون، لكوننا مسلمين أو عربا.

وربما يساعدنا اليوم في التحرر من هلاوس غرف الأنا والتفرد المغلقة، التي تحجب عنا النظر الأبعد والأوسع، ما لمسناه من تحرك على صعيد عالمي متجاوز للقوميات والأديان ولنا، تضامنا مع غزة وإعادة لاكتشاف حقيقة الصهيونية والقضية الفلسطينية.

أعصاب اللورد

لا تتحمل برقيات الاحتجاج

تقول دراسة للمؤرخ الأمريكي “روي ماكلويد” بعنوان   “مهمة بلفور إلى فلسطين: علوم واستراتيجية وافتتاح الجامعة العبرية بالقدس” بدورية “مينيرفا” الأمريكية ربيع 2008، إن صاحب وعد الدولة الصهيونية لم يكترث بالاحتجاجات ضد جولته على الأرض، وتشير لامتداح صحف لندن قيادات العالمين العربي والإسلامي من القاهرة إلى كلكوتا لتحليها بضبط نفس لم يكن متوقعا.

ولهذه الدراسة أهميتها من حيث أنها تعود إلى أرشيفات الصحف البريطانية ومراسلات بلفور وحاييم وايزمان رئيس المنظمة الصهيونية حينها، وإن انطوت على انحياز للصهيونية وتهوين من شأن الاحتجاجات الوطنية الشعبية.

وتدحض أرشيفات الصحف المصرية والفلسطينية هذا التهوين، وبشهادة ترجماتها لبرقيات صحف لندن ذاتها ووكالة رويترز عن جولة بلفور.

لم يقتصر الاحتجاج على ما تحفظه أرشيفات صحفنا من سيل برقيات ورسائل، تقول دراسة “ماكلويد” إن سكرتير بلفور الشخصي لم يطلعه عليها حتى لا يزعجه. وإن الأهرام وثق بعدد 28 مارس 1925 ترجمة لبرقية من يافا لوكالة” رويتر” البريطانية، أي رويترز بلغة زماننا، تنص على: ” يقول الذين رأوه ليلة أمس في تل أبيب أن آثار التعب بادية على وجهه فالتلغرافات (الاحتجاجية) التي تتوالى عليه أثرت على أعصابه”.

بل وكان الإضراب العام شاملا أنحاء فلسطين بمسلميها ومسيحييها ويهودها غير الصهاينة، وفق وصف تفصيلي لجريدة “فلسطين” 31 مارس آذار 1925.

بأعداد الأهرام من 23 مارس ولنحو أسبوعين سردية غنيه بالتفاصيل تفيد بنجاح الإضراب العام، وفق مكاتبات مندوبيها بالقدس ويافا، وترجمات صحف بريطانية ووكالات أنباء عالمية. وكمثال، تنقل في 24 مارس عن افتتاحية “الديلي ميل” أن ” زيارة اللورد بلفور لفلسطين تثير اضطرابا عظيما، والأنباء الأخيرة الواردة منها تثير القلق”.

فلسطين كما مصر

وجاء بصحف القاهرة، مثل “كوكب الشرق” 2 أبريل وبعنوان ” في فلسطين كما في مصر”، أن الفلسطينيين اقتدوا بمقاطعة المصريين خلال ثورة 1919 للجنة ملنر، فأحكموا مقاطعة بلفور.  وتفيد أرشيفات الصحف الفلسطينية بدورها تشكيل لجان للمقاطعة بطول البلاد وعرضها.

وتساءل عنوان “للكرمل” الفلسطينية 8 أبريل نيسان 1925 “ماذا استفدنا؟”، لتجيب: ” برهنا للعالم أجمع وللرأي العام البريطاني خصوصا أن الأمة بأحزابها وجمعياتها وطوائفها وشيبها وشبابها وبناتها كلها تتفق اتفاقا متينا على المبادئ الوطنية الأساسية، وتمقت سياسة تصريح بلفور”.

دمشق تجبره

على الهرب

في دمشق بين 8 و9 أبريل 1925، واجه بلفور الاحتجاجات الأكثر عنفوانا، مع أنها عفوية بلا تنظيم أو إعداد مسبق، كحال ما جرى بفلسطين.

ويقدم أرشيف المقطم ” الاحتلالية”، وفق توصيف مؤرخي الصحافة المصرية لعلاقتها الوثيقة بالسفارة البريطانية بالقاهرة، توثيقا متميزا بأقلام  كتابها بالعاصمة السورية، يصور حركة جماهير غفيرة بعشرات الألوف، تلاحق وتطارد اللورد بلفور بكل مكان يتوقع أن يذهب إليه، تتصادم مع الشرطة، فالجيش الفرنسي صداما دمويا. ويضطر صاحب وعد بلفور لأن يبقى حبيس الفندق وللابتعاد عن نوافذه، وقبل أن يهرب منه، ويغادر سوريا خلسه.

وبالمناسبة، فمن يطالع اليوم صحف القاهرة لا بد من أن يتحسر على ما دهاها، فلا توفد  مراسلا واحدا إلى سوريا خلال حدث بحجم سقوط نظام الأسد.

سؤال يقود

إلى سؤال

قد تُعزى هبة السوريين ضد جولة بلفور مقارنة بغلبة احتجاج البرقيات والنشر بمصر دون النزول للشارع، وعلى الرغم من المشاركة الرسمية باسم جامعة القاهرة في افتتاح الجامعة العبرية، إلى القول بضعف الشعور بالقومية العربية حتى نهاية ثلاثينيات القرن العشرين.

لكن ألا يستحق التأمل والبحث أن المجتمع السوري كان في طريقه إلى ثورته الكبرى على الاحتلال الفرنسي يوليو تموز 1925، كما كان المجتمع الفلسطيني يختمر بمقدمات هبة البراق 1929 وثورته الكبرى الممتدة بين 36 و1939، وهذا فيما كان المجتمع المصري يعاني وطأة انكسار ثورة 1919 والانقضاض على مكتسباتها على صعيد الحريات والمواطنة والديمقراطية، ومع أول تزوير للانتخابات بعد دستور 23.

في مقالنا هذا، استكمال لما بدأناه الأسبوع الماضي من محاولة استنطاق ما تبقى من أرشيفات صحفنا لإضاءة راهننا، واستخلاص نماذج معرفية تفسيرية، كما بشأن رسوب الأستاذ أحمد لطفي السيد في اختبار مبكر لاستقلالية جامعة القاهرة عن السلطة، واختياره التزام الموظف بأوامر وتكليفات الدولة بدلا من دور المثقف الحر.

ولو تساءلنا بعد الإضاءة على جولة بلفور: وهل بالإمكان أن تعرف عاصمة عربية اليوم احتجاجات شعبية على زيارة مسؤول يجاهر بالعداء للفلسطينيين حد الإبادة والانحياز للصهيونية في طورها الأكثر عدوانية وتوسعا وتوحشا ؟، لانتهينا إلى الوقوف على باب سؤال آخر، هو:

بعد قرن كامل، ماذا دهانا؟

 

صورة من افتتاح الجامعة العبرية منشورة بجيروزاليم بوست

المصدر : الجزبرة مباشر

إعلان