من بغداد وغرناطة إلى غزة.. دروس التاريخ المؤلمة

ما أشبه الليلة بالبارحة، غير أن أحداث الليلة صارت على الهواء مباشرة بخلاف البارحة التي كانت أخبارها تعرف بعد أسابيع أو شهور، ما يحدث في غزة ونشاهده على الهواء لحظة وقوعه الآن، وما يخطط العدو له، سواء داخل فلسطين، أو إعادة تشكيل الشرق الأوسط برمته هو ذاته ما جرى للعالم الإسلامي من قبل أكثر من مرة، لعل أشهرهما اجتياح المغول (التتار) لعاصمة الخلافة بغداد، وإسقاط الخلافة العباسية، واجتياح ملوك أوربا المسيحيين لممالك الأندلس الإسلامية، وإنهاء الوجود الإسلامي فيها بعد ثمانية قرون.
الذين ينشرون الرعب الآن من مواجهة العدو الصهيوني، ويرون أننا لسنا ملزمين بدفع فاتورة غيرنا (قاصدين المقاومة الفلسطينية)، وأننا لا طاقة لنا بمواجهة جيش الاحتلال الأحدث تسليحا، هم خلفاء لمن نشروا الرعب من مواجهة التتار في الممالك الإسلامية في الشرق، ومن مواجهة ملوك أوربا في الممالك الإسلامية في الغرب (ملوك الطوائف).
اقرأ أيضا
list of 4 itemsرسائل إلهية أم ظواهر طبيعية.. تأملات على وقع زلزال إسطنبول
نسب المشاهدة.. هل تحرم المشاهد من فاتح القدس؟
عادَ برهامي للتشويش فعُدْنا للبيان
الذين يلومون المقاومة الفلسطينية، بزعم أنها دخلت معركة غير متكافئة تسببت في إهلاك الحرث والنسل، هم سلالة من لاموا الممالك التي تصدت للغزو المغولي، ولم تستطع صده بسبب عدم التكافؤ في العدد والعدة أيضا، هل كان عليهم قديما أن يستسلموا دون مقاومة للاحتلال كما فعل البعض فعلا؟ وهل المطلوب من المقاومة الفلسطينية أن تلقي سلاحها، أو تسلمه للعدو ثمنا لوقف الحرب؟ وهل سيكتفي العدو بهذا الاستسلام والتسليم، أم أنه سيواصل التنكيل بالمقاومين وبالشعب الذي احتضنهم؟
زيارة للتاريخ
في التاريخ القديم كما في التاريخ الحديث كانت المقاومة هي الخيار الوحيد لمواجهة الاحتلال والاجتياح الأجنبي، مهما كان الاختلال في موازين القوى بين المقاومين والمعتدين، ومهما كانت النتائج المترتبة على ذلك، فحتى لو خسرت المقاومة المعركة العسكرية فإنها تترك خلفها رصيدا وميراثا مشرفا تتوارثه الأجيال، وعلى العكس من ذلك فإن كتب التاريخ تذخر باللعنات على المنبطحين الذين يسارعون في الاستسلام للعدو ثمنا لنجاتهم ( فتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ). لم يشفع لهؤلاء المرضى مسارعتهم في الاستسلام وطلب العفو من العدو.
يذكر ابن كثير في (البداية والنهاية) أن الخليفة المستعصم بالله أخر خلفاء الدولة العباسية قبل عرض وزيرة الخائن ابن العلقمي بالخروج لمقابلة قائد التتار هولاكو والتصالح معه حتى يتجنب اجتياح العاصمة بغداد. وبعد الاستسلام، قام هولاكو بقتل الخليفة ومن معه، واجتاح بغداد واستباحها، وفعل ذلك مع إمارات إسلامية أخرى.
يقول ابن كثير في تأريخه لتلك الفترة: “ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة (هجرية) وفيها: أخذت التتار بغداد وقتلوا أكثر أهلها (مليونا شخص في بعض الروايات) حتى الخليفة وأولاده الثلاثة، وانقضت دولة بني العباس منها.
“استهلت هذه السنة وجنود التتار قد نازلت بغداد صحبة الأميرين اللذين على مقدمة عساكر سلطان التتار، هولاكو خان، وجاءت إليهم أمداد صاحب الموصل (لاحظ أن حاكم الموصل مسلم خائن) يساعدونهم على البغاددة وميرته وهداياه وتحفه، وكل ذلك خوفا على نفسه من التتار، ومصانعة لهم قبحهم الله تعالى”.
استسلام آخر خليفة عباسي
ويضيف ابن كثير “أشار ابن العلقمي على الخليفة بالخروج إلى هولاكو والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم ونصفه للخليفة، فاحتاج الخليفة إلى أن خرج في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية ورؤوس الأمراء والدولة والأعيان، فلما اقتربوا من منزل السلطان هولاكو خان حجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفسا، فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأنزل الباقون عن مراكبهم، ونهبت، وقتلوا عن آخرهم، وأحضر الخليفة بين يدي هولاكو فسأله عن أشياء كثيرة فيقال إنه اضطرب كلام الخليفة من هول ما رأى من الإهانة والجبروت.
“وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطح، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي وطائفة من التجار أخذوا لهم أمانا، بذلوا عليه أموالا جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم.
بكاء أبو عبد الله الصغير
تكررت المأساة في سقوط غرناطة آخر ممالك المسلمين في الأندلس بعد خيانات متتالية لملوك الطوائف، أدت لسقوطهم تباعا، وصولا إلى حاكم غرناطة أبو عبد الله الصغير الذي وقع اتفاقية استسلام مع الملك فرناندو، والملكة إيزابيلا، وسلم قصر الحمراء في مشهد مؤلم مطلع العام 1492 للميلاد، حيث ينسب إلى أمه حينما شاهدته باكيا أنها قالت له “ابك بكاء النساء على ملك لم تصنه كالرجال”. وأهم ما تضمنته وثيقة التسليم المحفوظة حاليا في مكتبة الأرشيف التاريخي في غرناطة: “أن يقوم أبو عبد الله الصغير بتسليم قصر الحمراء ومدينة غرناطة، ويتعهد الأسبان بأن يحتفظ المسلمون بديارهم وممتلكاتهم، وأن يستمروا بممارسة شعائرهم، ولا يجبرون على التحول إلى المسيحية، وأن تطبق فيما بينهم القوانين الإسلامية” لكن ما حدث بعد ذلك هو نقض هذه الوثيقة، وفرض المسيحية على المسلمين، ونصب محاكم التفتيش لهم، بينما هرب الصغير إلى فاس المغربية حيث مات هناك سنة 1533 للميلاد.
تدرك المقاومة الفلسطينية وفي القلب منها حماس دروس التاريخ القديم، ولم تنس بعد درس استسلام المقاومة الفلسطينية عقب الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وما تبعه من استمرار العدو في ملاحقتها، وهو ما تحدثت عنه في مقال الأسبوع الماضي، ولذا فليس متوقعا أن تلقي المقاومة سلاحها، أو ترفع الراية البيضاء، حتى لو استشهد كل أفرادها.