قضية التهجير.. البداية والنهاية

الرئيس الفرنسي ماكرون أثناء إلقاء كلمته بجامعة القاهرة ضمن زيارته لمصر (رويترز)

لم تكن زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى مصر عابرة.

الزيارة التي احتفت بها مصر الرسمية بشكل لافت جاءت في لحظة شديدة الحساسية، حيث يتصاعد مخطط تهجير الفلسطينيين من أرضهم بضغط صهيوني ورعاية أمريكية سافرة.

بدا الأمر وكأن ماكرون قد جاء لينقل رسالة أوروبية إلى القاهرة عنوانها الكبير: أوروبا ترفض التهجير، وترى في بقاء الفلسطينيين على أرضهم جزءًا من استقرار الإقليم وأمن المتوسط.

في علاقة الإدارة الأمريكية الجديدة بدول أوروبا برود واضح وخلاف غير خاف على المتابعين.

فرنسا تبدو في صدارة الدول الرافضة لأداء إدارة ترامب وسياساتها.

ما لم يُعلن صراحة، هو أن هذه الزيارة يبدو أنها تحمل أيضًا غطاءً سياسيًا فرنسيًا وأوروبيًا للموقف المصري الرافض حتى الآن للضغط الأمريكي المتزايد للقبول بالأمر الواقع الجديد بتهجير الفلسطينيين والخلاص من صداع غزة.

هذا الضغط الذي لم يتوقف عند حدود الدبلوماسية، بل ذهب إلى مستويات سياسية واقتصادية وأمنية، بات معه الغطاء السياسي الأوروبي مطلوبًا ومهمًا.

من أين تبدأ الحكاية وكيف ستنتهي؟

هذه أسئلة اللحظة!

إسرائيل وإصرار لا يتوقف..

منذ اللحظة الأولى لانطلاق العدوان الإسرائيلي على غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، ظهرت نوايا تل أبيب بوضوح.

لم تكن المسألة مجرد رد عسكري على عملية نوعية نفذتها المقاومة الفلسطينية، بل كانت خطة محكمة لتفريغ غزة من سكانها، ودفعهم إلى خارج القطاع تمامًا.

حصار كامل لكل مقومات الحياة والبقاء.

القصف المجرم الذي طال البيوت والمدارس والمستشفيات والمخابز والمراكز الحيوية كان الهدف الرئيسي منه قتل الحياة اليومية لسكان غزة وجعل الحياة غير محتملة.

الوثائق التي تم تسريبها من دوائر صنع القرار في دولة الاحتلال كانت كاشفة لخطة استراتيجية لطرد سكان غزة إلى سيناء.

الجديد في الأمر أن إدارة ترامب الحالية توافق ضمنيًا على خطط التهجير، بل ويدعو لها ترامب بنفسه، بعد أن عارضتها إدارة بايدن ورأت استحالة تنفيذها دون تهديد كبير وشامل للإقليم كله يمكن أن يشعل نيرانًا لا تنطفيء.

أحد بنود هذه الخطة ينص على أن تكون المرحلة الأولى “نقلًا إنسانيًا موقتًا”، ثم تبدأ مراحل التوطين والتجنيس والدمج الاقتصادي والاجتماعي في بيئة جديدة.

الموقف المصري الرسمي كان رافضًا لخطط التهجير منذ اللحظة الأولى، وكان منتبهًا لأن حصار مقومات حياة أهل غزة هو المقدمة التي يليها طردهم.

حتى اللحظة الحالية ما زال الكيان المحتل يحاول عن طريق الحصار والدمار تنفيذ الخطة، يشجعه موقف أمريكي منحط ومساند، وأفكار عبثية ومجنونة يرددها ترامب من مكتبه البيضاوي.

ترامب وضغوط لا تتوقف

بصعود الرئيس الأمريكي ترامب إلى السلطة عاد مخطط التهجير يطل كما لم يحدث من قبل.

مارس الرئيس الأمريكي الجديد القديم ضغوطًا على عدد من الدول بشكل لم يسبق له مثيل، وبتصريحات علنية تجاوزت حدود دبلوماسية الغرف المغلقة واللقاءات غير المعلنة.

ترامب لا يرى في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي سوى فرصة لتصفية ما يسميه “المشكلة التاريخية”، وقد قالها مرارًا: الحل في توطين الفلسطينيين بعيدًا عن إسرائيل، ولا مانع أن يكون ذلك في سيناء أو الأردن أو أي بقعة عربية أخرى.

هلاوس فكرية غير منضبطة ولا مفهومة يعبر عنها رئيس لا يهتم بقواعد السياسة والدبلوماسية كثيرًا.

معركة ليست عسكرية هذه المرة، بل سياسية ودبلوماسية واقتصادية بدأت في ظل وضع عربي مأزوم.

فالدول العربية تتعرض لضغوط غير مسبوقة، بعضها في صورة عروض استثمارية بمليارات الدولارات، وبعضها الآخر في صورة تهديدات مبطنة تتعلق بالمساعدات أو دعم استقرار الأنظمة وبقائها!

مصر على وجه التحديد، تجد نفسها في مواجهة مباشرة، لأن نجاح مخطط التهجير لن يكون ممكنًا من دون عبور الفلسطينيين لبوابة رفح، ومن ثم التوسع في سيناء.

الرفض المصري حتى الآن يحمل مؤشرات عن انتباه أجهزة الأمن القومي لما يحاك وما ترغبه الإدارة الأمريكية الجديدة.

في كل ما يحدث لا رهان إلا على رفض واضح وصمود مستمر لكل صيغ التهجير مهما كانت المغريات أو الضغوط.

مصر في مواجهة فوهة المدفع بحكم الموقع الجغرافي والدور التاريخي الذي لا يمكن إلا أن تلعبه كقدر لا يمكن أن يتزحزح.

وربما هناك صدام مصري أمريكي قادم بات يلوح في الأفق على خلفية رغبة ترامب المحمومة في إنجاز مخطط التهجير سريعًا، قبل إعادة رسم خريطة المنطقة بتفوق إسرائيلي كاسح.

كيف نتصدى إذا تصاعدت الضغوط؟

ليس أمام العرب من خيار إلا التمسك بالرفض ومقاومة المشروعات المشبوهة القادمة من واشنطن وتل أبيب.

في الخطوة الأولى يطل عنوان عريض: إعادة بناء موقف عربي موحد.

وبالتوحد يمكن إعلان رفض كل محاولات التهجير واعتبارها بمثابة عدوان على الأمن القومي العربي، وفي الفلب منه الأمن القومي المصري.

بتلويح سريع لإمكانية تجميد اتفاقيات السلام العربية يمكن أن تعيد بعض الأطراف الدولية حساباتها، أو تعلن مواقف واضحة ورافضة لخطط الأمريكان الشيطانية.

في هذا التلويح بتجميد الاتفاقيات الدولية يقع العبء الأكبر على مصر الرسمية.

هذا التهديد المصري والعربي يجب حمله كرسائل دبلوماسية للعالم، لا سيما الدول الأوروبية، وتبنيه في المحافل الدولية، ربما صنع فارقًا كبيرًا يوقف الاندفاع الأمريكي المتهور.

وبدخول الشعوب العربية إلى المعركة يمكن تغيير قواعد اللعبة بالكامل.

معارك بهذا الحجم، لا يجب أن تقف عند حدود الأنظمة وحدها.

هذه حقيقة ناصعة.

المطلوب بشكل عاجل تحرك شعبي عربي، واعٍ وواسع وحر.

مظاهرات واحتجاجات وحملات للمقاطعة وغيرها من صور المقاومة السلمية يمكن أن تكون داعمة بقوة للتحركات الرسمية.

اللحظة دقيقة، والحسابات معقدة.

والأنظمة العربية بتحركات شجاعة وبدعم من الشعوب قادرة على إيقاف المخطط وإهداره.

والمؤكد أن التاريخ يسجل الآن تلك المشاهد الفارقة والفاصلة، ويكتب من كان على قدر اللحظة غير المسبوقة.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان