كشف المستور في “أزمة زيزو”

“اللهم خذه أخذ عزيز مقتدر.. اللهم اخسف به الأرض خسفًا.. اللهم أرنا فيه عجائب قدرتك”.
هذه الدعوات الحارة لم تكن على مجرم الحرب نتنياهو، ولا على حاكم ظالم يسوم شعبه سوء العذاب، ولا على رجل أعمال بدرجة شيخ منسر، ولا على مجرم يُرهب العباد، بل على رئيس النادي الأهلي، ولاعبه الأسطوري عبر التاريخ؛ محمود الخطيب.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالدور القومي العربي لسوريا الجديدة؟
نتائج مُبشرة.. 5 جلسات فقط لعلاج السرطان
تجربة شخصية مع فتوى القرضاوي تيسير الموت للمريض
كانت صفحة من صفحات مشجعي الزمالك، على شبكة “فيسبوك” قد نشرت صورة للخطيب، وطلبت من متابعيها توجيه كلمة إليه، فإذا بالهجوم على الرجل ينحدر إلى حضيض الفحش، وإذا بالاتهامات تشمل فساد الذمة المالية، والانخراط في غسيل الأموال، وإدارة كرة القدم بما يتأتى من أرباح هذا النشاط الإجرامي، فضلًا عن تخريب الرياضة، ومن ثم انهالت الدعوات تفحُّ غلًا وحقدًا وكراهية.
نبرة عدائية تبدو مستجدة
دع عنك الحقيقة الظرفية من أن غالبية تلك التعليقات جاءت في حين كانت صفقة أو صدمة انتقال لاعب الفريق الأبيض؛ أحمد زيزو إلى الغريم التاريخي الأهلي، لا تزال ساخنة وربما “حارقة”، والمؤكد أن مشجعي الزمالك قد بلغوا ذروة الغضب، لكن هذا لا يسوَّغ أبدًا تلك النبرة العدائية المملوءة عنفًا لفظيًّا، ورغبةً محمومة في “تدمير الآخر”.
هذا المشهد بما يحمله من ظواهر تبدو مستجدة، يستدعي تمعنه بروية، في إطار كونه متغيرًا مستجدًّا عميقًا وخطيرًا على “سيكولوجية الجماهير”.
المعلوم أن معظم مشجعي كرة القدم، ليسوا من أصحاب الياقات البيضاء، وليسوا ممن يكبحون جماح انفعالاتهم الفوّارة، ولا يتصرفون بـ”الشوكة والسكين”، وكثيرًا ما يتلاعنون بألفاظ يندى لها الجبين؛ هذا يحدث وسيحدث، في مصر وفي غير مصر، مع بالغ الأسف وعميق الاستنكار، لكن المثير بفداحة في الكلمات التي وُجهت إلى الخطيب، أن أصحابها يختزنون إزاءه غضبًا ينزع إلى العنف، ويجنح إلى القسوة المفرطة، إلى حد تمنِّي “أن تُخسف به الأرض”.
هذه المشاعر الخشنة العدائية، قلما كانت توجد في الشارع المصري الذي ينزع إلى اللين إجمالًا، وإن حدثت فإنما كانت استثناءات طارئة تثبت القاعدة، والمؤكد أن طفوها الآن على خلفية انتقال لاعب من نادٍ إلى آخر، بهذه الدرجة من الفظاظة والفجاجة، يستدعي وبإلحاح قرع أجراس الخطر، من انفجار الكراهية فجأةً في أعماق المجتمع.
من تأويلات الظاهرة أن الاحتقان السياسي، قد حدا بالناس إلى تصويب رصاص الغضب إلى الرياضة، التي يُفترض أن تقوية الروابط بين البشر من أبرز أولوياتها وأهم وظائفها المجتمعية.
وواردٌ أن يقال إن الأزمات الاقتصادية التي تعصر عظام غالبية المصريين، وما تُرسخه في ذواتهم من شعور بالعجز، إلى جانب شعورهم باليأس من التغيير، تُضرِّم نارًا في أعماقهم، ولكن ألسنتها لا تشوي إلا وجوه بعضهم بعضًا.
وهنالك بالطبع من سيرى أن الضجة المثارة إثر انتقال اللاعب إلى الأهلي، هي من تدبير شياطين، يرومون إشغال الناس عن همومهم الحقيقية، ومنها بالطبع جرائم الإبادة الصهيونية في غزة، عبر تطبيق آليات الإلهاء الشهيرة في نظرية نعوم شومسكي.
كارثة اسمها الإعلام الرياضي
لكن إلى جانب هذه التفاسير الثلاثة -وهي في ظن كاتب السطور صحيحة بدرجات متفاوتة- هنالك تفسير رابع يبدو أنه غائب عن الناظرين، وهو ما يتصل بالفوضى الكارثية التي تطغى على الإعلام الرياضي المرئي، الذي يتصدره رياضيون سابقون خلعوا “الشورت” بعد اعتزالهم، فارتدوا من فورهم البدلات الفاخرة، بعد أن صاروا مقدمي برامج يتقاضون الملايين، بغير أدنى خبرة أو وعي بأبجديات العمل الإعلامي.
هنا يكايد أحمد شوبير، جماهير الفريق الأبيض، بخطبة عصماء عن تفوق الأهلي الأخلاقي، و”علو كعبه” على منافسيه “الفاشلين”، وهنالك يصرخ خالد الغندور بأساطير المؤامرة الكونية على الزمالك، الذي يتحالف الإنس والجن على تخريبه والقضاء عليه، وعلى المنوال ذاته يسير الآخرون، فإذا بإبراهيم سعيد، لا يقدّم حلقة إلا وشنَّ هجومًا بغير مناسبة على معشوق مشجعي الأبيض “شيكابالا”، في حين لا يستنكف أحمد حسام ميدو عن تحميل الأهلي مسؤولية إحداث ثقب الأوزون!
كذلك يتردى الإعلام الرياضي المصري، في مستنقعات العبث وأمسيات السب والقذف والنميمة الفارغة، وصولًا إلى تأجيج البغضاء بين جمهوري الناديين، اللذين يستقطبان ما لا يقل عن 90% من جمهور الساحرة المستديرة في البلاد.
لو أردت أمثلة فليس عليك إلا أن تذهب إلى محرك البحث “غوغل” فتنقر على لوحة المفاتيح: “شوبير يسخر.. أو ميدو يسخر”؛ أي اسم، وعندئذٍ سيتكفل “غوغل” باستيفاء العبارة، وسيقدم لك عديدًا من المقاطع الفيلمية التي يسخر فيها قوم من قوم، عبر التفاحش اللفظي والتنابز بالألقاب، وربما العبارات ذات الدلالات الخليعة المتهتكة.
تصدير الاحتقان ينحدر إذن من فوق إلى تحت، عبر الإعلام الذي ينبغي أن ينادي بالسلم، ويدعو بالكلمة الحسنة إلى اعتناق الأخلاق الرياضية، وهو ما لا يحدث لأسباب تتعلق بأن خطابًا على هذه الشاكلة من الاتزان، لن يستقطب المتطرفين من الجماهير، وهم فئة يبدو أنها آخذة في الازدياد، وإزاء “النيوليبرالية” التي تختزل قيمة الأشياء في البنكنوت، فلا بد من مداعبة مشاعر هذه الفئة، ولتذهب أخلاقيات المهنة إلى الجحيم، فكذلك سيلهث المعلنون والرعاة، وتتكدس الملايين في البنوك.
إن السكوت على إفشاء الكراهية في قاعدة المجتمع، قد يؤدي إلى سيناريوهات دراماتيكية، ولا ننسى أن وضعًا مشابهًا، كان أفضى قبل 16 عامًا إلى إشعال النيران بأحد مشجعي السلة الزملكاويين، ولولا أن العناية الإلهية أنقذت حياته، لربما كانت تلك الجريمة باب ريح عاتية، تزلزل السلم المجتمعي زلزلةً في منتهى الخطورة.
المسألة أكبر من “زيزو”، وبمعايير فنية فإن وجوده قد لا يمثل إضافة معتبرة إلى صفوف الأهلي، إذ هنالك أكثر من لاعب يجيدون اللعب في مركزه، لكن المسألة أن الكراهية المقرونة برغبة تدميرية، تسرح في طينة مصر، كأفعى سامة في حقول القصب بالقرى المنسية.
وماذا بعد؟
سؤال لا إجابة عنه إلا بأسئلة تبدو أصعب ومنها: كيف ندرأ الخطر المستور الذي كشفته أزمة زيزو؟ وهل هنالك رغبة سلطوية في درء هذا الخطر؟ وأخيرًا كيف ينضبط الخطاب الإعلامي بغير وضع المزيد من “الكلابشات” على حرية التعبير؟