مناجم الملح في سيوة.. كنز أبيض وسط الرمال

في عصر التقدم العلمي المتسارع، يعيش الإنسان حياة لاهثة، باحثًا فيها عن الرخاء المادي والحياة المريحة، في ظل سباق نفسي ومجتمعي محموم لإثبات التفوق والتميّز، لكن مع فرط التقدم وكثرة المظاهر المدنية الحديثة، يصاب الكثيرون بالإرهاق، وتتسلل إليهم أمراض العصر كالتوتر والقلق والاكتئاب، فيجدون أنفسهم مدفوعين إلى البحث عن الصفاء والعودة إلى الطبيعة.
ومع تصاعد الدعوات العالمية نحو العودة إلى أنماط الحياة البسيطة والبدائية، تبرز مصر بكنوزها الطبيعية الفريدة، التي لم تمتد إليها يد التغيير بعد. من بين هذه الكنوز، تلمع مناجم الملح في واحة سيوة كأحد أجمل أسرار الصحراء الغربية. هناك، في عمق الرمال، يرقد كنز أبيض نقيّ، لا يُستخرج من باطن الأرض فقط، بل يتجلى على سطحها في صورة بحيرات ملحية نقية بيضاء، تُعرف باسم “الذهب الأبيض”. تخطف هذه البحيرات الأبصار بجمالها الأخّاذ، ومياهها التي تتدرج ألوانها ما بين الأزرق الصافي، والأخضر الزمردي، والبني الرملي، والأبيض الناصع، وكأنها لوحات فنية.
الملح.. إرث يتجاوز الطعم
وإن كانت بحيرات الملح في سيوة تخطف الأبصار بجمالها، فإن ما تمنحه لنا من مشهد ليس سوى جزءًا من قصة أكبر.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsالوجه الثوري للحاج مالك الشباز الشهير بـ”مالكوم إكس”
حين يصبح الترفيه دعوة.. والدعوة ترفيها
الشريعة وميراث حفيدات الدجوي
فالملح، هذا العنصر الأبيض ليس مجرد مادة تستخرج من الطبيعة لتحسين نكهة الطعام، وإنما هو إرث حضاري رافق الإنسان منذ فجر التاريخ، لما مثله من قدرة على حفظ الطعام، قبل اختراع وسائل التبريد الحديثة.
وكان مرتبطًا بحياة الناس اقتصاديًا وروحيًا واجتماعيًا، ففي روما القديمة، بلغ الملح من الأهمية ما جعله يستخدم كعملة للمقايضة، حتى أن الجنود كانوا يتقاضون جزءًا من أجورهم به، ومنه اشتق لاحقًا مصطلح “الراتب” في بعض اللغات. وهي كلمة مشتقة من الكلمة اللاتينية “سالاريوم”، التي تعني “راتب”، وجذرها يعود إلى كلمة “سال”، التي تعني “ملح”. وامتدت رمزيته إلى الحياة اليومية، فارتبطت به العبارات والأمثال الشعبية مثل “بينا عيش وملح”، للتعبير عن المودة والوفاء بين الناس، وكأن من يتقاسم الملح معك لا يمكن أن يخونك. لم يكن استخدام الملح مقتصرًا على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية فحسب، بل امتدّت لتبلغ حدود الأسطورة. فقد وصفه هوميروس بأنه “مادة إلهية”، بينما رآه أفلاطون أنه “عزيز على الآلهة”، في دلالة على قداسته ومكانته في الثقافة الإغريقية. وعند المصريين القدماء، كان الملح عنصرًا أساسيًا في طقوس التحنيط، لما له من قدرة على حفظ الجسد من التحلل، وكأنه يحمل سر الخلود. أما حضارة المايا، فقد نظرت إليه على أنه دواء، يُستخدم للشفاء وتطهير الجسد من الشرور. وكان الإغريق يستخدمونه أثناء الطقوس والتضحيات الدينية، باعتباره رمزًا للنقاء والرباط المقدس بين الإنسان والإله.
كنوز سيوة البيضاء.. من الجمال إلى الشفاء
ويبدو أن واحة سيوة قد احتفظت لنفسها بنصيب وافر من هذا الإرث العريق، إذ تحتضن واحدة من أجمل الظواهر الطبيعية وأندرها في مصر: مناجم الملح وبحيراتها البيض الممتدة على أطراف الواحة.
تنتج سيوة أنواعًا متعددة من الملح، أبرزها الملح الصخري الخشن العالي النقاء، الذي يدخل في صناعات متنوعة، منها ملح الطعام، والهدايا التذكارية مثل “أباجورات” الملح والمصابيح وحوامل الشموع. كما تُنتج أيضًا الملح الناعم، وتُستخرج كذلك أملاح تُستخدم في البناء التقليدي بنظام “الكرشيف”، وهي أسلوب معماري فريد يعتمد على خلط الملح بالطين، ويُعد جزءًا من تراث الواحة العريق.
ما يميز ملح سيوة ليس فقط جودته وتعدد استخداماته، بل المشهد الساحر لبحيراته، التي أصبحت في السنوات الأخيرة مقصدًا سياحيًا وعلاجيًا يقصده الزوار من داخل مصر وخارجها. للاستمتاع بجمال الطبيعة والبحث عن الشفاء في مياهه الغنية بالمعادن التي تسهم في علاج أمراض الجلد والمفاصل والجيوب الأنفية ومشكلات العيون، فضلًا عن قدرتها المذهلة على تخليص الجسد من التوتر والطاقة السلبية.
تجربة فريدة تحت شمس الصحراء
وقد حملتني رحلتي الأخيرة إلى سيوة إلى هذه المناجم البيض، حيث تمتد بحيرات الملح المتلألئة تحت شمس الصحراء. مفتوحة للزوار بلا حواجز ولا قيود أو حتى رسوم دخول.
تقع المناجم على بعد حوالي ثلاثة كيلو مترات ونصف كيلو متر من وسط المدينة، ولا يفضل زيارتها بمفردك، بل يُنصح بمرافقة مرشد أو قائد سيارة يعرف تضاريس المنطقة جيدًا.
كما يفضل الذهاب عبر سيارات الدفع الرباعي، نظرًا لوعورة الطريق وعدم تمهيده، إذ لا توفر “التروسيكلات” المنتشرة في سيوة الراحة الكافية للذهاب إلى هذه المناطق النائية.
وحين تصل، تجد الزوّار وقد توزّعوا على ضفاف البحيرات، كلٌّ منهم يبحث عن تجربته الخاصة في المياه المالحة، التي تمنح الجسد طفوًا تلقائيًا بفضل تركيز الملح العالي، الذي يصل إلى نحو 95%، ما يجعل الغرق مستحيلًا، حتى لأولئك الذين لا يجيدون السباحة.
ومع نهاية هذه الرحلة، أدركت أن مناجم الملح في سيوة ليست مجرد مشهد طبيعي يخطف الأنفاس، بل هي حكاية نابضة تجمع بين جمال الطبيعة وعمق التاريخ. ورغم ما تحمله هذه البحيرات من إمكانيات سياحية واقتصادية واعدة، تظل سيوة وكنوزها البيض بحاجة إلى رعاية مستمرة وتقدير حقيقي لقيمتها البيئية والثقافية، ليظل هذا الكنز الأبيض حاضرًا ومتجددًا، ومتاحًا للأجيال القادمة.