أحلامنا المغتالة في مقهى المحطة

مسلسل "فهوة المحطة" للكاتب عبد الرحيم كمال (منصات التواصل)

الصدق في النص الدرامي يبدو من لحظة العمل الأولى ينقل المشاهد إلى منطقة أخرى يمس قلبه ويجعله يتعلق بالعمل ولا يستطيع أن يذهب بعيدا، وعبد الرحيم كمال واحد من أسطوات الأعمال الدرامية خلال العقدين الأخيرين. فمنذ بدايات أعماله التليفزيونية وهو يحفر لنفسه طريقا متبعا طريق الكبار الذين أقاموا صرحا كبيرا اسمه الدراما المصرية.
ويعود عبد الرحيم هذا العام بدراما إنسانية متميزة تغوص في أعماق أحلام جيل من المبدعين ضاعوا في مجتمع يقتل المواهب والأحلام. فعلى مقهى محطة مصر وسط المدينة يقدم لنا فئات المجتمع المصري، دراما المكان الواحد يقدمها وكأنه يقول لها إن هذا المقهى هو الوطن بأحلامه وشعبه، بمبدعيه وآلام أبنائه المهمشين الذين يتحكم في أوجاعهم وأحلامهم الملك.

مقتل الحلم

مؤمن الصاوي بطل العمل ابن الصعيد المصري الموهوب القادم إلى القاهرة في قلبه أحلام التألق وهزيمة المدينة (القاهرة)، ومنذ اللحظة الأولى تسرق المدينة القاسية متاعه، وكأنها تقول له “استفق فأنا لست كما تتخيل” وكما يقول مؤمن كأنها اللطمة الأولى له من سبع لطمات مستعيدا الفيلم المصري (عنتر ولبلب).

لم تكن اللطمة تلك على وجهه بل على وجوه الحالمين، وكم من المواهب والمبدعين الذين عايشتهم فيها تعرضوا لسرقة أحلامهم وآمالهم: شعراء، أدباء، مفكرون، فنانون، مواهب في كل المجالات، منهم من اكتئب، ومن رحل، ومن نُحر، ومن انتحر يأسا وألما.
كأن عبد الرحيم كمال ومخرجه المبدع إسلام خيري يرثيان جيلا بأكمله، صادفناه أو عايشناه وكنا أفرادا منه.

مؤمن الصاوي لا ينهزم بسهولة تعلو وجهه ابتسامة دائمة يظنها قادرة على هزيمة المدينة القاسية على أهلها قبل غربائها. ومن أول حلقات العمل يُقتل الشاب مؤمن الصاوي الذي يظن نفسه قادرا أن يعيد الفن إلى رسالته، هكذا وقبل أن يتنفس المشاهد يلطمه عبد الرحيم كمال (لا تحلم، لا تبدع، لا تحاول أن تغير) فالواقع موبوء ولم يعد كما كان أو كما تظن!

وتبدأ رحلة البحث عن قاتل مؤمن أو قاتل الحلم، مؤمن الاسم ذو دلالة كبيرة إيمان بالقدرة والإبداع، وفي المجتمع المحيط بالصعيدي القادم بأحلامه يقدم لنا المؤلف نماذج تمثل الشعب المصري، وعلى الحواف تتشابك أحوال صاحب المقهى، عماله، ورواده ومجتمعهم مع حكاية الغريب القتيل في وسط المقهى عندما انقطعت الكهرباء لمدة دقيقتين، والقتيل لم يستقر في مكانه.

يبدأ ضابط المباحث في البحث عن القاتل، ويصبح كل من بالمقهى محل اتهام ليستعرض لنا التحقيق هؤلاء الموجودين بالمقهى أو يعملون بها، ومحيطها من الباعة الجائلين، أو أصحاب الأعمال الهامشية حولها. قدم لنا الكاتب نماذج تصلح كل منها أن تكون محور حلقات، ولكن اسلام خيري، وكمال استطاعا أن يقدما هؤلاء جميعا في إيقاع درامي تلهث وراءه لتعرف حكاية كل فرد منهم.

صاحب المقهي الذي التقط طفلا تائها من أهله واتخذه ولدا لأنه لا ينجب، وعندما يرزق ولدا لا يبحث عن أهل الطفل، بل يكمل مشواره معه. المدهش أن يكون الغريب الأكثر علما وأخلاقا من ابنه الحقيقي، عمال المقهى أحدهم مجهول الاسم والهوية حتى أنه لا يمتلك بطاقة هوية، والآخر رب أسرة تحتاج ابنته إلى نقل كُلية ولا يمتلك ما يستطيع علاجها فيحتال على فقير آخر ليبتاعه كليته مقابل مبلغ زهيد، ويستعرض العمل بهذا الشكل الكثير من الشخصيات المهمشة.

النموذج الأقرب لشخصية مؤمن الصاوي (الحلم المقتول) هو شخصية محمد نجم الكاتب الدرامي الذي جاء إلى القاهرة من إحدى مدن الدلتا ليكون كاتبا دراميا وسينمائيا كبيرا مبدعا، ولكن أحلام محمد تتحطم على صخرة واقع إنتاج درامي وسينمائي يأخذ السهل والبسيط ولا يعترف بالمبدع المثقف صاحب الرؤية.

يعيش محمد على سطح بناية بوسط المدينة، ولا يملك إيجار الغرفة التي يقطنها، ويجلس على المقهى طوال الوقت ليكتب أعماله التي لا تنتج، ويرصد رواد المقهى ويكتب حكاياتها، وكأن عبد الرحيم يكتب جزءا من تجربته، أو تجارب بعض أصدقائه ممن عايشهم، وحين يسأل مؤمن صديقه: لماذا لم تعد إلى مدينتك، فيقول له محمد نجم : إن القاهرة دهسته ولم يعد بداخله من الأحلام ما يجعله يهرب بها. وفي مشهد آخر على سطح البناية ينظر مؤمن إلى السماء ثم يقول : سماء الصعيد والقرى تستطيع أن ترى فيها القمر والنجوم، أما القاهرة فالأنوار وأضواء الإعلانات قتلت السماء فلا يظهر فيها لا قمر ولا نجوم.

النص والإخراج

غاب عبد الرحيم كمال في النصف الأول من موسم رمضان الدرامي الذي قدم خلاله ما يقرب من  40 عملا دراميا، كان نصيب الأعمال الجيدة فيهم ما يقارب 10 أعمال وهو رقم جيد مقارنة بالمواسم الأخيرة، وجاءت (قهوة المحطة) في النصف الثاني من رمضان في عودة أيضا إلى الأعمال القصيرة (15 حلقة) هذا جعل الأعمال تتميز بإيقاع سريع مثلما شاهدنا في مسلسل (النص) وهو من الأعمال الجيدة التي قدمت في النصف الأول، و(ظلم المصاطب) الذي عرض في نصف الشهر الأخير، وهما من الأعمال التي حازت إشادات كثيرة، ولنا عودة مع العمل الدرامي (النص) للموهوب أحمد أمين.

يعود كمال في نص اجتماعي بعد تجربته في الحشاشين العام الماضي الذي أراه بعيدا عن مستوى وتألق عبد الرحيم كمال الذي استعاده بكتابة هذا النص الملهم، ويقدم شخصيات مصرية واقعية كأنها نحن نتحرك على شاشة أبدعها المخرج الشاب إسلام خيري الذي يتمتع بثقافة وفكر عال. إن أفضل تعبير وجدته يتردد داخلي طوال مشاهدة (قهوة المحطة) أن عبد الرحيم كمال يكتبنا أو يكتب حياة المصريين بلغة راقية تقترب من النص الأدبي الروائي.

استطاع إسلام خيري في عمله الدرامي العاشر أن يصل لمرحلة النضج الفني من خلال هذا الإيقاع الفريد في عمل لم يشعرك بأي لحظة بالملل أو إيقاع بطيء وتلك نقطة تحتاج إلى مخرج يمتلك أدواته بشكل جيد.

كانت لمسة فنية راقية من المخرج التقاطه تلك الأغنية الجميلة لعبد الرحيم منصور والملحن صاحب البصمة الفنية الراقية أحمد منيب (يا وعدي على الأيام) لمقدمة العمل وبصوت منيب الذي يوحي بالأصالة والعمق، أما الصورة في تتر العمل فكانت باستخدام صور مرسومة برقة وجمال للشخصيات والبطل وجغرافيا المكان.

فريق يعيد الثقة للتمثيل

أهم ما يميز العمل هو أعادة الاكتشاف للكثير من الممثلين الموهوبين وتألق أخرين من كبار الممثلين فكان إعادة اكتشاف لمحمد الصاوي الذي قدم شخصية الأب المكلوم في فقدان ابنه صغيرا ويطمع شقيقه في ميراثه وبلا كلمة واحدة يقدم الصاوي واحدا من أهم أعماله الفنية، وبجوار الصاوي يأتي علاء مرسي والد مؤمن الصاوي بطل العمل الذي يفقد ابنه مقتولا. هناك أيضا الفنان الذي قدم شخصية معلمه في القرية والذي كان يمثل معه في مسرح الثقافة الجماهيرية، وفي مشاهد قليلة يقدم سليمان عيد دورا من أدواره المهمة.

تألق في العمل رياض الخولي في شخصية الملك الذي يحرك الشخصيات ويتحكم فيها مستغلا أوجاعهم ومشاكلهم بالسيجار الفخم يبيع ويشتري فيهم، وكما قال مؤمن عنه “شخص ذو وجهين ما يظهر منه غير ما يخفي). هالة صدقي في دور مرسوم بعناية شديدة. إعادة اكتشاف لعلاء عوض في دور عامل المقهى المقهور بمرض طفلته التي ستموت إن لم تحصل على كُلية. أحمد علاء أو محمد نجم الذي ضاعت أحلامه ككاتب في القاهرة فصار مسخا يحاول أن يسترجع بعضا من الحلم مع مؤمن.

بيومي فؤاد قدم دور عمره في المعلم رياض صاحب المقهى الذي يعيش أواخر أيامه. لقد ابدع إسلام خيري في تسكين فريق عمله.

جاء تألق بطل العمل أحمد غزي في دور مؤمن الصاوي ببشاشة الوجه المبتسم ابتسامة الثقة على هزيمة المدينة صاحب الوجه الطائر المتطلع دائما إلى السماء، صاحب الوجه الأسمر الذي يؤكد أن هناك موهوب ومبدع يولد في القاهرة كل يوم.

بالجوار كان تألق أحمد خالد صالح في دور ضابط المباحث المحقق الباحث عن الحقيقة، الذي يسير بخطوات واثقة على طريق والده النجم الراحل خالد صالح صاحب الموهبة المبدعة. ضياء عبد الخالق في شخصية خليفة ذات المشاعر المتباينة وقدم مشاهد رائعة خاصة مشهد قتله للصورة المرسومة لزوجته، ومشهد استخراجه الصورة من قبرها داخل المنزل.

الواقع أن قهوة المحطة يعيد الثقة في الدراما المصرية، لقد جعلنا عبد الرحيم كمال وإسلام خيري نرى أنفسنا أحلاما وآلاما على الشاشة وبيقين وإبداع قال لنا إسلام خيري إن مصر قادرة على الإبداع القوي وإنها قادرة على العودة.

المصدر : الجزيرة مباشر

إعلان