التنين الصيني يستعد لمواجهة النسر الأمريكي!

يقاتل ترامب، عبر محاولة تنفيذ انقلاب تجاري عالمي، لوقف اضمحلال الإمبراطورية الأمريكية وعرقلة صعود التنين الصيني اقتصاديًّا وعسكريًّا، لكن العالم يحبس أنفاسه خشية أن تتحول التوترات بين الطبقات الحاكمة في الدول الكبرى إلى حرب مدمرة على غرار ما جرى في ثلاثينيات القرن الماضي.
ورغم الأخطار الماثلة لحرب الرسوم الجمركية، فإن حركة “ارفعوا أيديكم عنا” التي نظمت مظاهرات مليونية في كل الولايات الأمريكية أخيرًا، تمنحنا بصيصًا من الأمل في إمكانية هزيمة مشروع ترامب اليميني المتطرف.
اقتصاد عالمي راكد
وأدى تصعيد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة وعدد كبير من دول العالم، وفي مقدمتها الصين، إلى تعرُّض الاقتصاد العالمي الراكد والضعيف أصلًا لصدمات وهزات عنيفة، ويثير شبح المواجهة العسكرية.
اقرأ أيضا
list of 4 itemsمن يُشعل النيران في الشرق الأوسط؟ قراءة في مصادر الصراع
علمانية الطوائف السورية
طلقات حاخام: القومية نزعة شريرة والصهيونية “أخلاقية”
وكان ترامب قد أعلن تجميد الرسوم الجمركية مدة 90 يومًا بعدما فرضها قبل أيام على 60 شريكًا تجاريًّا للولايات المتحدة، إلى حين إجراء مفاوضات تجارية مع هذه الأطراف، لكن الرئيس الأمريكي استثنى الصين من هذا الإجراء، وزاد الرسوم عليها.
وقد حذر جيمي ديمون، الرئيس التنفيذي لبنك جي بي مورغان، وهو أحد كبار المصرفيين الأمريكيين، من أن الركود هو “النتيجة المحتملة”، مشيرًا الى أن عدم اليقين بشأن مسار الاقتصاد العالمي الحالي سيقيّد أيضًا الإنفاق الاستثماري، وهو المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي.
وحذرت منظمة التجارة العالمية من أن التوترات التجارية المتصاعدة بين الولايات المتحدة والصين تشكل خطرًا كبيرًا، وتتسبب في حدوث انكماش حاد للتجارة الثنائية، لافتة إلى أن توقعات المنظمة الأولية تشير إلى أن تجارة البضائع بين هذين الاقتصادين يمكن أن تنخفض بنسبة تصل إلى 80%.
وفرضت واشنطن على بيجين رسومًا إضافية ضخمة بلغت 145%، وردَّت بيجين بفرض رسوم تصل الى 125%.
وبلغ حجم التجارة في السلع بين القوتين الاقتصاديتين نحو 585 مليار دولار العام الماضي. وتستورد الولايات المتحدة من الصين (440 مليار دولار)، وهو أكثر بكثير مما استوردته الصين من الولايات المتحدة (145 مليار دولار).
غروب الإمبراطورية الأمريكية
ولكن لماذا يمكن أن تتطور هذه الحرب التجارية بين أكبر اقتصادين في العالم إلى المواجهة العسكرية؟
الإجابة تكمن في طبيعة النظام الإمبريالي ذاته.
فالإمبريالية نظام عالمي للدول الرأسمالية المتنافسة. ومنذ أواخر القرن التاسع عشر، شهدت اندماجًا بين التنافس الاقتصادي لرؤوس الأموال والتنافس الجيوسياسي للدول.
أسَّست الإمبريالية الأمريكية نظامًا عالميًّا رأسماليًّا ليبراليًّا بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945.
اختلف هذا النظام عن نظام الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية، وارتكز على الأسواق الحرة والتجارة الحرة التي تهيمن عليها الشركات الأمريكية.
ولطالما كان هناك بُعد اقتصادي وعسكري. فقد استطاعت الولايات المتحدة استخدام صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، منذ إنشائهما عام 1944، لفرض نفوذها على منافسيها وحلفائها والدول الأضعف.
كان هذا كله -ولا يزال- مدعومًا بالقوة العسكرية من خلال حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ومئات القواعد العسكرية المنتشرة في العالم.
هذا ما حدث عندما أصبحت ألمانيا التهديد الرئيسي -صناعيًّا وعسكريًّا- للإمبراطورية البريطانية خلال الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى عام 1914.
ظل الاندماج بين المنافسة الاقتصادية والجيوسياسية قائمًا، ولكن كان هناك انفصال جزئي بينهما.
ما نشهده اليوم هو إعادة تأكيد عنيف لهذا الاندماج. العالم أشبه بكثير بفترة ما قبل الحرب العالمية الثانية، عندما حاربت الإمبريالية البريطانية المُرهَقة للحفاظ على هيمنتها.
تحديات وجودية
مثَّلت التطورات في العقدين الأولين للقرن الجديد تحديات وجودية للهيمنة الأمريكية، على سبيل المثال لا الحصر: الفشل الأمريكي في العراق وأفغانستان، وتراجع الحجم النسبي للاقتصاد الأمريكي، والصعود الاستثنائي للرأسمالية الصينية ومعها القوة العسكرية الصينية، وتوسُّع النفوذ الصيني الجيوستراتيجي في آسيا وإفريقيا، والصعود الجديد لروسيا بوتين وتهديدها (عسكريًّا وليس اقتصاديًّا) للنفوذ الأمريكي.
ومنذ مغادرة ترامب منصبه في عام 2021 تزايد خطر الصين، متمثلًا في تطوير الذكاء الاصطناعي وشعبيته، الذي أدى إلى انهيار سوق الأسهم الأمريكية.
وقد تجاوزت الصين الولايات المتحدة بصفتها أكبر مساهم في التجارة الدولية.
ويعكس الشهر الأول من رئاسة ترامب اشتداد المنافسة الإمبريالية بين “القوى الكبرى” مثل الولايات المتحدة والصين، والجهات الإقليمية الفاعلة مثل السعودية وإيران وإسرائيل وتركيا.
واشنطن.. السامري الصالح!
ولا تهدد سياسات ترامب الاقتصادية بإشعال مواجهات عسكرية كبرى فقط، بل تؤجج نيران الحرب الطبقية داخل البلاد.
يزعم ترامب أن تراجع الصناعة الأمريكية مردُّه أن واشنطن تؤدي دور “السامري الصالح”، فيتألم عمالها وطبقتها الوسطى لينعم العالم بالنمو على حسابها.
وبوصفه محامي الصناعة والعمال البيض تحديدًا، أعلن الحرب التجارية على العالم باللجوء إلى سياسة الحماية والتعريفات الجمركية، ثم تراجع مؤقتًا مستثنيًا خصمه الرئيس الصين.
لكن حربه التجارية تهدد بتقسيم الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة.
وردًّا على فرض ترامب رسومًا جمركية بنسبة 25% على الصلب والألومنيوم، قال رئيس شركة فورد للسيارات جيم فارلي إن هناك “تكاليف باهظة وفوضى عارمة”. يضغط فارلي حاليًّا على صانعي السياسات الأمريكيين لإلغاء الرسوم الجمركية.
أما ثقة المستهلكين فتواصل التراجع في الولايات المتحدة، وقد أظهرت دراسة نشرتها جامعة ميشيغان “تراجعًا معممًا وشاملًا بغضّ النظر عن العمر أو المستوى التعليمي أو مكان العيش أو الانتماء السياسي”.
مفترق طرق
كما أن ملايين العمال اكتشفوا كم كانت وعود ترامب لهم خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة بتحسين أوضاعهم كاذبة. فاليوم الذي وصفه ترامب بأنه “يوم التحرير”، ورفع فيه الرسوم الجمركية، كان كابوسًا على عشرات الآلاف من العمال بعد ارتفاع الأسعار.
وشن ترامب هجومًا على حقوق العمال بخفض الوظائف، وعبر تقويض النقابات.
الهجمات كانت واسعة وعميقة، وهي جزء من مشروع سياسي أوسع لنقل المزيد من الثروة والسلطة إلى الأغنياء.
لقد وضعت الإدارة نحو 200 ألف موظف بالقطاع العام في فترات الاختبار على طاولة التسريح، وهي الخطوة التي أوقفتها دعوى قضائية أخيرًا.
يصف الملياردير إيلون ماسك، رجل ترامب اليميني المتطرف، خططه للتسريح الجماعي في القطاع العام بأنها “مفترق طرق”.
لكن هذه السياسات هي بالفعل جزء من سياسة تضع العالم كله على مفترق طرق، فإما الاستسلام لخطر الحرب والتدمير الاجتماعي وإما المقاومة.
ارفعوا أيديكم عنا!
الرابع من إبريل/نيسان الجاري لم يكن يومًا عاديًّا في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، بل محطة فاصلة تسجلها ذاكرة الديمقراطية باحتجاجات تجتاح البلاد بشعار واضح “ارفعوا أيديكم عنا!”.
وانضم نحو مليون شخص إلى الاحتجاجات التي تُعَد مؤشرًا واضحًا على تصاعد المعارضة الشعبية لما يصفه المنظمون بـ”أجندة المليارديرات” وتفكيك الدولة لصالح نخبة اقتصادية ضيقة.
نُظمت المسيرات والتجمعات في أكثر من 1300 موقع بجميع أنحاء الولايات الخمسين.
وشهد اليوم حضورًا قويًّا للنقابات العمالية وناشطي فلسطين ومنظمات المجتمع المدني.
كما شهد احتجاج واشنطن كلمات لعدد كبير من المنظمات، بما في ذلك أعضاء ديمقراطيون في الكونغرس.
وأصدرت منظمة “موف أون”، وهي إحدى الجهات الراعية للحراك، بيانًا جاء فيه “هذه تعبئة وطنية لوقف أكبر عملية سطو على السلطة في التاريخ الحديث. إن لم نقاوم الآن، فلن يبقى شيء يُنقَذ لاحقًا”.
ويبقى الأمل معقودًا بأن تتحول حركة “ارفعوا أيديكم عنا” إلى حركة شعبية دائمة، يمكنها هزيمة ترامب واليمين المتطرف، وتقديم بديل لنظام فاشل.